نوع المستند : المقالة الأصلية
المؤلف
أستاذ ورئيس قسم القانون المدنى المُساعد بکليـة الشرطة
المستخلص
المُقدمــــة
جوهر التصرف القانونى هو الإرادة، فهى لحمته وسداه، والإرادة بدورها عبارة عن اختلاجة نفسية داخلية يجب التعبير عنها فى العالم الخارجى على نحو يرضاه القانون، وأن تتوافر لها شروط تضمن صحتها فى نظره، حتى يستقيم عودها ويقوم بنيانها، ويطيب بناء العقد، ويحقق النفع الاقتصادى لأطرافه. بيد أن هذه الإرادة لا تنبت من فراغ أو عدم، بل لا بد لها من باعث Mobile([1]) مشروع يدفعها ويستحثها على إبرام العقد، بما يحمله بين جنباته من رغبات وغايات المتعاقدين، ويغدو بها نحو سلوک سبيل العقد([2]).
ومع ذلک نجد أن العقد يستمد قوته الملزمة من توافق إرادات طرفيه على إبرامه، دون وجود إلزام على طرفيه بتسبيب هذه الإرادة، أو الإعلان عن دوافعها، وينبع ذلک من حرصهما دائماً على الحفاظ على أسرار وکوامن العملية التعاقدية من تطفل الغير، وغالباً ما يجدان فى ذلک ضمانة لإتمام التعاقد والحصول على المنفعة المبتغاة منه، بل يصل الأمر بکل منهما فى کثير من الأحيان إلى تفضيل عدم البوح للطرف الآخر بالأسباب التى دفعته للتعاقد؛ فالاتفاق على العناصر الأساسية وحصول الأطراف على المنفعة، کان يبدو منسجماً مع الغاية من وراء إبرام العقد، مما کان يغنى عن التزام المتعاقد بتسبيب التعبير عن إرادته، وفقاً للقواعد العامة، أو بمعنى أدق، لم يکن هناک حاجة فى ظل هذا الوضع – وعدم تشعب العلاقات التعاقدية - للاهتمام بهذا الالتزام، فالأسباب أو البواعث تظل عادة خارج إطار العقد کامنة فى النفس طالما لم يتم التعبير عنها([3]).
غير أن تطور الحياة الاقتصادية أدى إلى ظهور علاقات تعاقدية تتميز بعدم التوازن بين طرفيها، نتيجة وجود طرف قوي في العلاقة التعاقدية، قد يملک من مقومات القوة التعاقدية ما يسمح له بتحديد عناصر العقد أو يقرر مصيره، إنهاءً أو استمراراً، بإرادته المنفردة([4])، وفى هذه المنطقة بالذات تبدو الهوة العميقة بين صلاحيات المتعاقدين، ويثور التساؤل حول ترک المتعاقد لمحض إرادته، التى تدفعها مصالحه، دون حدود ورقابة، أم يکون من حسن الصنعة القانونية إلزامه بتسبيب تصرفه.
- تجاهل نظرية العقد لفکرة الالتزام بالتسبيب:
رغم الغموض الذي يحيط بأصل فکرة التسبيب، فالمعروف أنها ليست فکرة جديدة على رجال القانون، فقد ارتبطت فى أذهانهم - منذ وقت طويل - بتسبيب الأحکام القضائية([5])، ثم ما لبثت أن اقترنت أيضاً بتسبيب القرارات الإدارية فى نطاق القانون العام، ولهذا أصبح التسبيب ضمانة جوهرية من ضمانات تحقيق العدالة، وبهذه المثابة فهو "يمثل القلب النابض للقضاء، الذى لا يمکن أن يوجد بدونه، بل هو القلب النابض للقانون نفسه"([6]).
فالتسبيب ظل - لفترة طويلة - راسخاً فى الأذهان، بأنه يعنى الترجمة الصادقة للحکم، واللازم لقبوله ومشروعيته؛ حيث يکفل إقناع الخصوم بصحة وعدالة الحکم، إذ إن اطلاعهم على أسبابه يولد لديهم قناعة بصحته وعدالته، ويدفعهم للثقة بأن الحکم لم يکن وليد أهواء أو أغراض، وإنما صدر بعد بحث واستنتاج وتمحيص للوقائع، کما أنه ثانيًا حق طبيعي للخصوم، بوصفه أداة لتفعيل الحقوق الأخرى وضابطاً يحمي الحقوق الفردية، ويدافع عن الحريات الشخصية.
ورغم رسوخ فکرة التسبيب فى إطار الأحکام القضائية، حيث نالت حظاً وفيراً من التنظيم التشريعى والتناول الفقهى والقضائى([7])، إلا أنها ليست حکراً على القانون الإجرائى، فالقانون الموضوعى يعرفها أيضاً، وإن اختلف مدلولها وضاق نطاقها فيه، "فالمفهوم العام للتسبيب يبقى واحداً، من ناحية ما يعنيه من أن يکون القرار مسبباً، سواء أکان القرار المقصود هو قرار القاضى، أم کان قراراً من أحد المتعاقدين فى الرابطة العقدية"([8]).
ومع هذا، بدا هناک تجاهل کامل للتسبيب فى الإطار التعاقدى، أى التسبيب غير القضائى motivation non juridictionnelle، إذ ظلت النظرية العامة للعقد بعيدة عن هذه الفکرة، ولم يعرها الفقه اهتمامه إلا مؤخراً، رغم الومضات التى أطلقها البعض منذ فترة زمنية طويلة، حيث ذهب الفقيه إجزافييه لاجارد Xavier Lagarde – قبل عشرين عاماً - إلى أن "مسألة تسبيب التصرفات القانونية، على ما يبدو، لم يتم تناولها على الإطلاق بشکل مباشر؛ إذ کان يتم تناولها بشکل عابر في بعض الأطروحات والمقالات"([9]).
وهذا بلا شک يوضح سبب غياب التنظيم التشريعى للالتزام بالتسبيب فى البيئة التعاقدية، لدرجة التفات القانون المدنى عن استخدام مصطلح «التسبيب motivation» أو حتى مصطلح «الباعث motif»، سواء في تکوين العقد أو في زواله، وتأخر الفقه والقضاء کثيراً فى تناوله وتفصيل حدوده وضوابطه، رغم أهميته.
ورغم جمود القواعد العامة فى إقرار الالتزام بالتسبيب فى العقود، إلا أن ذلک لم يحد من إمکانية قبوله فى بعض الأحوال، فلا يوجد ما يمنع المتعاقد من تسبيب التزامه طواعيةً، کما يجوز الاتفاق بين المتعاقدين على اشتراط التسبيب، وهو مسلک يفيد بلاشک متى ثار نزاع أمام القاضى، إذ يکون المتعاقد قد أعرب مقدماً عن بيان الأسباب التى دفعته لإبرام التصرف، کما يساهم فى بث الطمأنينة لدى المتعاقد الآخر من حيث مراعاة مصالحه فى هذه الحالة([10]).
ولکن فى تطور لافت للنظر بدأ هذا الالتزام يحظى بقدر من الاهتمام، حين جرى تنظيمه فى بعض القواعد المنظمة للعقود الخاصة Contrats spéciaux؛ وأول ما يتبادر إلى الذهن منها هو أحکام عقد العمل التى تفرض التزاماً على رب العمل بتسبيب قرار فصل العامل motiver le licenciement، سواء أکان ذلک مبنياً على سبب شخصى([11]) أم اقتصادى([12])، لضمان عدم تعسفه والتيقن من نزاهة قراره، کما تفرض أحکام الإيجار التجارى، فى فرنسا، على المؤجر اشتراط تسبيب بعض تصرفاته القانونية فى مواجهة المستأجر([13]).
ومن ثم، يبدو أن الالتزام بالتسبيب ليس أمراً جديداً أو غريباً على نظرية العقد، وإنما غالباً ما نجد له جذوراً راسخة فى تربة العلاقات التعاقدية المبنية على تفاوت الصلاحيات الممنوحة لأحد المتعاقدين فى مواجهة الآخر([14]).
وقد أدى انتشار هذه النصوص القانونية إلى حث الفقه الفرنسى على التساؤل حول مدى إمکانية استيعاب القواعد العامة للعقد للالتزام بالتسبيب، أو على الأقل بالنسبة لطائفة معينة من العقود يطلق عليها عقود التبعية contrats de dépendance، التى يکون فيها لأحد المتعاقدين سلطة تحديد أو تعديل مضمون العقد أو حتى إنهاؤه دون الرجوع للمتعاقد الآخر، أى بإرادته المنفردة unilatéralement ([15])، والتى باتت ساحة خصبة لتجاوزات الطرف القوي فى العلاقة العقدية. ومناط هذا التساؤل حقيقة هو أن الالتزام بالتسبيب يؤدى دوراً مهماً فى حماية مصلحة الطرف الضعيف، عبر تنظيم عبء الإثبات بما يتسق مع توزيع الصلاحيات فى العقد، ويواجه التعسف ويعمل على تحقيق التوازن العقدى([16]).
وصحيح أن بعض الأنظمة القانونية لا تفرض الالتزام بالتسبيب فى المجال التعاقدى، إلا أن ذلک لا يحول دون تطوير هذا الالتزام فى إطار العقد، فهو أداة يتعين اللجوء إليها حينما يوجد اختلال فى توازن العقد، على نحو يتطلب النظر فى بواعث طرفيه([17]).
([1]) يقصد بالباعث، "کل التصورات السابقة التى تحدد نشأة التصرف القانونى باعتباره عملاً إرادياً، فيدخل فى ذلک کل المقاصد والأغراض البعيدة، والتصورات بالنسبة لوقائع معينة، التى تکون أساس الخطة التى يعتبر التصرف القانونى أحد عوامل تنفيذها". راجع: د. عبد الودود يحيى: نظرية الغلط فى القانون المدنى الألمانى، مجلة القانون والاقتصاد، جامعة القاهرة، العدد 39، 1969، ص 456. وللباعث أثر حاسم على إرادة المتعاقد، فهو فى الواقع، الحافز أو الدافع له على الالتزام، ويتصل، من ثم، بالالتزام اتصال العلة بالمعلول أو السبب بالمسبب. راجع: د. محمود جمال الدين زکى: الوجيز فى نظرية الالتزام فى القانون المدنى المصرى، الجزء الأول: فى مصادر الالتزام، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1968، ص 90، هامش1.
([2]) الباعث أو الدافع فى حد ذاته باعتباره عنصرًا خارجيًا عن العقد extrinseque، قد لا يذکر في الاتفاق ضرورة، فهو خلجة نفسية تتولد فى نفس المتعاقد تحثه على التعاقد، إبراماً أو فسخاً أو انقضاءً، وهو أمر شخصى subjectif للمتعاقد، إذ يرجع إلى نواياه وما يتأثر به من دوافع، وهو شيء متغير variable، يختلف من عقد إلى آخر ومن متعاقد لآخر، وبحسب الدوافع الخاصة به. راجع: د. عبد الرزاق السنهورى: الوسيط فى شرح القانون المدنى، الجزء الأول: نظرية الالتزام بوجه عام، مصادر الالتزام، تنقيح المستشار/ أحمد مدحت المراغى، طبعة نادى قضاة مجلس الدولة، 2008، فقرة 263، ص 362.
([3])HOUTCIEFF (Dimitri): La motivation en droit des contrats, Revue de droit d'Assas, Université Panthéon-Assas et Lextenso éditions, no 19, Décembre 2019, no 3, p. 36.
([4]) يخول القانون فى بعض الأحيان صلاحيات تعاقدية تسمح لأحد الأطراف بتحديد عناصر العقد بالإرادة المنفردة (الثمن، والکمية، والمحل، وما إلى ذلک) أو اتخاذ قرار فى شأن مصير العقد (إنهاء العقد المبرم لفترة محددة، أو عدم تجديد العقد في نهاية المدة..) وقد يتعارض ذلک مع مصلحة الطرف الآخر. فى هذا الصدد، انظر:
FERRIER (Didier): Une obligation de motiver, Revue des contrats, LGDJ, no 2, 1 avril 2004, no 1, p. 561.
([5]) أصبح الالتزام بتسبيب الأحکام القضائية الآن مبدأ إجرائيًا عامًا اکتسب قيمة دستورية فى کافة دول العالم. لمزيد من التفصيل فى هذا الشأن، راجع: د. عزمى عبد الفتاح عطية: تسبيب الأحکام وأعمال القضاة في المواد المدنية والتجارية، دار النهضة العربية، الطبعة الرابعة، 2008.
([6]) HOUTCIEFF (D.): La motivation en droit des contrats, op. cit., p. 35.
ويشير فى هذا الصدد إلى الصياغة الطريفة التى عبر عنها "ليون هوسون Léon HUSSON"، بقوله إن: القانون يبدأ "في الوقت الذي يجتهد فيه الذئب، في قصص الحيوانات الخرافية الشهيرة، بدلاً من أن يأکل الحَمَل دون تفسير، أن يبدى للحَمَل الأسباب التي تخول له أن يأکله".
HUSSON (Léon): Compte-rendu, in Nouvelles études sur la pensée juridique, Dalloz, Paris, Collection Philosophie du droit, 1974, p. 130.
([7]) نلاحظ أن مصطلح التسبيب ترسخ فى الأذهان مقترناً بتسبيب الأحکام، لدرجة أنه هو المعنى الوحيد الذى يعتمده معجم کورنو Cornuلمصطلح التسبيب.
CORNU (Gérard): Vocabulaire juridique, Association Henri CAPITANT, QUADRIGE/PUF, Paris, 8e éd., 2009, p. 600, vo. Motivation.
([8]) راجع: د. محمد حسن قاسم: فسخ العقد بالإرادة المنفردة، قراءة فى التوجهات القضائية والتشريعية الحديثة، دار الجامعة الجديدة، 2016، ص 187، هامش 355.
([9])LAGARDE (Xavier): La motivation des actes juridiques, in La motivation, Travaux de l'Association Henri CAPITANT, Journées nationales, Limoges, t. III, LGDJ, 2000, p. 73 ets.
([10]) فى هذا الصدد، راجع:
REVET (Thierry): L’obligation de motiver une décision contractuelle unilatérale, instrument de vérification de la prise en compte de l’intérêt de l’autre partie, Revue des contrats, LGDJ, no 2, 1 avril 2004, p. 579, spéc. no 7.
([11]) تنص المادة L1232-6 من قانون العمل الفرنسى (المعدلة بالمادة 11 من القانون رقم 217 لسنة 2018 الصادر فى 29 مارس 2018) على أن: "عندما يقرر رب العمل فصل العامل، فلابد أن يخطره بقراره بخطاب مُسجل موصى عليه بعلم الوصول. ويجب أن يتضمن هذا الخطاب بيان الأسباب التى يستند إليها رب العمل ...".
([12]) يجرى نص الفقرة الأولى من المادة L. 1233-16 من قانون العمل الفرنسى، سالف الإشارة إليه، على ما يلى: "يجب أن يتضمن قرار فصل العامل بيان الأسباب الاقتصادية التى يستند إليها رب العمل".
([13]) يُشار فى هذا الصدد إلى أنه وفقاً للمادة L.145-17 من قانون التجارة الفرنسى، يجوز للمؤجر رفض تجديد الإيجار التجارى دون مطالبته بأى تعويض، متى استطاع أن يبدى سبباً جاداً ومشروعاً حيال المستأجر.
([14]) HOUTCIEFF (D.): La motivation en droit des contrats, op. cit., no 2, p. 35.
([15]) FABRE-MAGNAN (Muriel): Pour la reconnaissance d’une obligation de motiver la rupture des contrats de dépendance économique, Revue des contrats, no 2, 1 avril 2004, p. 573 et s; REVET (Thierry): Les apports au droit des relations de dépendance, in La détermination du prix, coll. Thémis et commentaires, Dalloz, 1997, p. 37.
([16]) REVET (Th.): L’obligation de motiver une décision contractuelle unilatérale, op. cit., spéc. no 7.
([17]) وقد عبر عن ذلک بعض الفقه بقوله إن: الالتزام بالتسبيب يسود فى المسائل التعاقدية L'obligation de motivation gagne la matière contractuelle".
REVET (Th.): L’obligation de motiver une décision contractuelle unilatérale, op .cit., p. 579, no 3.
وفى هذا الشأن، انظر أيضاً:
FABRE-MAGNAN (Muriel): L’obligation de motivation en droit des contrats, in Études offertes à Jacques GHESTIN, Le contrat au début du XXIème siècle, LGDJ, 2001, p. 306 ets; LAGARDE (X.): La motivation des actes juridiques, op. cit., p.77.
نقاط رئيسية
تکملة المقال داخل الملف المرفق
الموضوعات الرئيسية