عقـود التدريب Contracts of apprenticeship)) في مصر إبان العصر الروماني (في ضوء الوثائق التاريخية وقوانين العمل المعاصرة والفقه الإسلامي)

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

قسم فلسفة القانون وتاريخه کلية الحقوق- جامعة القاهرة

نقاط رئيسية

تکملة المقال داخل الملف المرفق

الموضوعات الرئيسية


تقديم:

الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم, وقال في محکم تنزيله: " وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا"([1]).

والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الشريف: ما أکل أحد طعاما قط خير من أن يأکل من عمل يده, وأن نبي الله داود کان يأکل من عمل يده([2]).

أما بعد,,

يعد عقد التدرج أو التدريب من العقود التي حرصت القوانين القديمة والمعاصرة على تنظيمها وضبط العلاقة بين أطرافها, نظرا لأهميتها في تطور الصناعات والحرف بالمجتمع, وباعتبار أن التدريب سبيل هام لتوارث الحرف ونقل مهاراتها وأسرارها للأجيال الجديدة, لتوفير مهنين مهرة بالمجتمع([3]).

کما ترجع أهمية تنظيم عقود التدريب؛ إلى أن المتدرب يکون في بعض الأحوال قاصرا يحتاج إلى حماية قانونية تضبط مرکزه القانوني, وتشجعه على التدرب توطئة لحصوله على عمل في المستقبل.

وفي الحياة المعاصرة اتسع نطاق التدريب فلم يعد قاصرا على الحرف والصناعات بل أصبح ممتدا إلى مختلف المهن, کما أصبح التدريب على مهارات المهن المختلفة محلا لنشاط و تخصص کثير من شرکات القطاع الخاص, نظرا لحاجة الکثير من الشباب الخريجين إلى الحصول على قسط من التدريب لرفع مهاراتهم العملية في مجال تخصصهم, کي يکونوا مؤهلين للفوز بفرص وظيفية, کما عرفت عقود التدريب المرتبطة بالتوظيف, وکذلک نجد بعض القوانين العمل المعاصرة تضيف إلى هذه العقود جانباً متقدماً وهو التوجيه المهني, فالمادة (131) من قانون العمل المصري تقرر هذا الجانب، وقد عرفته بأنه: "مساعدة الفرد في اختيار المهنة أو المسار المهني الأکثر تلاؤماً مع قدراته واستعداده وميوله, في ضوء الدراسات المستمرة لسوق العمل والمهن المطلوبة ومقوماتها".

لذا نجد أن رغم تعدد مسميات عقد التدريب في القوانين المعاصرة إلا أن أقرب الأسماء إلى القوانين القديمة هو عقد التدرج أو التلمذة الصناعية حيث کان يغلب على هذه العقود خلال العصور القديمة الطابع الحرفي أو الصناعي.

وقد تناولت القوانين المعاصرة عقد التدريب بالتنظيم, فنجد قانون العمل الموحد المصري رقم 2لسنة 2003م قد تناوله في المواد من 141-144([4]), کما تناولته المواد من 45- 49 من نظام العمل والعمال السعودي الصادر بالمرسوم الملکي رقم م/51 لسنة 1426هـ, بالموافقة على قرار مجلس الوزراء رقم 219 لسنة 1426هـ. کما نظم قانون العمل الفرنسي عقد التدرج, ومراکز تدريب المتدرجين, والنظام القانوني لعقد التدريب أو عقد تعلم المهنة, وذلک في المواد من115-1حتى 117- 11.

کما تطرق الفقه الإسلامي إلى عقد التدريب وتناول بعض أحکامه, إذ أشار إليه السرخسي في کتابه المبسوط, وکذلک الشيخ الدرير بالشرح الکبير فذکر أنه يجوز لمن له ولد أو عبد أن يدفعه إلى معلم لتعليمه صنعة معينة مقابل عمله لديه مدة معينة في ذات الصنعة التي يتعلمها. فيقول- رحمه الله -: " جاز لمن له رقِيق أَو ولَد (تَعْلِيمُهُ) أَي دفعه لمن يعلِّمه صنعةً معينة (بعملِهِ سَنَةً) مثلا للْمُعَلِّمِ, فسنةٌ ظرفٌ لِعَمَلِهِ، وأَما التَّعْلِيمُ فمطْلَقٌ. وابْتِدَاءُ السَّنَةِ (من) يومِ (أَخْذِهِ) لا من يومِ العقْد عنْد الْإِطْلاقِ, فإِن عَيَّنَا زمَنًا عُمِلَ به فيما يظْهرُ"([5]).

وبتتبع الوثائق التاريخية خلال العصر الروماني بمصر الذي امتد من عام (30ق.م إلى 641م) نجد أن عقد التدريب أو التدرج کان محل تنظيم واهتمام بالغ في الحياة العملية, وفي عرف الحياة الصناعية وقتئذ, کما نجد أن النقابات المهنية حينئذ قد حرصت على ضبط عملية التدريب لضمان توفير مهنين متميزين, ومراقبة عقود التدريب حماية للمتدربين.

وذلک في ظل مناخ قانوني مصري يموج بالتأثير والتأثر بين القوانين التي طبقت وقتئذ في ظل مبدأ شخصية القوانين الذي کان سائدا خاصة في فترة ما قبل دستور کرکلا 212م, إذ طبق على أرض مصر خلال العصر الروماني عدة قوانين في وقت واحد: القانون الروماني الذي اقتصر تطبيقه على الرومان, والقانون المصري الإغريقي الذي کان مشترکا بين المصرين والإغريق, والقانون المصري بالنسبة للمصريين, والقانون الإغريقي بالنسبة للإغريق, وقانون الشعوب الذي کان يسمح للمصريين والإغريق التعامل به([6]) أما بعد صدور دستور کرکلا فقد أضحى القانون الروماني الشريعة العامة للبلاد وأصبحت القوانين والأعراف المحلية جزءا من القانون الروماني([7]).

ومن خلال هذا البحث نتناول التنظيم القانوني لعقد التدريب في مصر إبان العصر الروماني کأنموذج للعقود غير المسماة في القانون الروماني, وکمظهر من مظاهر التأثير المتبادل بين القانونين المصري والروماني, وذلک في ضوء الوثائق التاريخية لهذا العصر مع الاسترشاد بالنصوص القانونية المعاصرة للقانون المصري والسعودي والخاصة بتنظيم عقد التدريب, وکذلک أحکام الفقه الإسلامي الواردة في هذا الباب, حيث لم نتوصل إلى نصوص قانونية رومانية تتناول عقد التدريب بشکل خاص إذ إنه خضع للنظرية العامة للعقود غير المسماة في القانون الروماني والتي بدأت مع العصر العلمي ونضجت مع عصر الامبراطورية السفلى کما سنرى لاحقا.

ويأتي البحث من خلال مبحث تمهيدي وثلاث مباحث:

 المبحث التمهيدي: يسرد بعض التعريفات المرتبطة بعقود التدريب واللازمة لحسن فهم موضوع البحث, کما يتناول أحکام أهلية الأداء والنيابة في التعاقد بالقانون المصري القديم والقانون الروماني, باعتبار أن معظم عقود التدريب التي تضمنتها وثائق العصر محل الدراسة لم يبرمها المتدرب بنفسه لصغر سنه. کما يتناول المبحث التمهيدي العلاقة بين القانون المصري والقانون الروماني في العصر الروماني وأثرها على أحکام العقود.

 المبحث الأول: يتناول أهم عناصر عقد التدريب في مصر إبان العصر الروماني في ضوء الوثائق التاريخية, و نصوص قانون العمل المعاصر, وأحکام الفقه الإسلامي (بالنسبة لبعض العناصر).

 المبحث الثاني: يظهر دور الحکومة, والنقابات المهنية في تنظيم عقود التدريب في مصر خلال العصر الرومان.

 المبحث الثالث: يبين الطبيعة القانونية لعقد التدريب في القانون الروماني.



[1])) سورة: الإسراء. الآية 85.

([2]) حديث صحيح رواه البخاري في الصحيح، والحديث يحث على کسب الحلال، والحرص على طلب الحلال من حدادة، أو خرازة، أو نجارة، أو غير ذلک من أعمال اليد مع النصح، وأداء الأمانة في العمل.

[3])) ونفس الغاية تحرص عليها المجتمعات المعاصرة, فمجلس التدريب الصناعي التابع لوزارة التجارة والصناعة المصرية دشن لتأهيل ورفع قدرات وکفاءة العاملين بالقطاع الصناعي في مصر وتطوير منظومة التدريب لسد احتياجات الصناعة, وللمجلس في الوقت الحالي2015م, برامج تدريبية تسعى من خلالها لتحقيق هذه الغاية ومن هذه البرامج:

1- البرنامج القومي للتدريب من أجل التأهيل؛ ويقوم هذا البرنامج على تقديم منح تدريبية مجانية للشباب من الجنسين تغطي العديد من احتياجات القطاعات الصناعية المصرية وتواکب التطورات التکنولوجية التي تتبناها المصانع المصرية والمشروعات القومية الجديدة. وأهم المجالات التدريبية المتاحة في البرنامج: تکنولوجيا اللحام واختباراته, معامل الاختبارات والقياسات الصناعية, الطاقة الشمسية الکهربائية...

2- البرنامج القومي للتمکين الاقتصادي والاجتماعي للمرأة؛ ويهدف البرنامج إلى خلق آفاق جديدة للمرأة المصرية تساعدها على خلق فرص للتمکين الاجتماعي والاقتصادي. ويتم هذا عن طريق تدريب السيدات والفتيات على العديد من المهن بأحدث الأساليب العلمية وعلى أيدى مدربين محترفين يتم اعتمادهم من قبل مجلس التدريب الصناعي بما يضمن تأهيل المرأة المصرية لسوق العمل, ومن المهن التي يتم التدريب عليها الحياکة والتفصيل, السجاد اليدوي...

3- مشروع الحرفي؛ ويهدف المشروع إلى تأهيل و تدريب الشباب من الجنسين على المهن الحرفية باستخدام أحدث التکنولوجيا المتوفرة لخلق جيل من العمالة الماهرة القادرة على دخول سوق العمل. ومن برامج التدريب التي يدعمها هذا المشروع: التدريب على إصلاح الأجهزة المنزلية, صناعة الحقائب و المشغولات الجلدية, صيانة و إصلاح الهاتف المحمول, صناعة الحلي و الاکسسوار.

 انظر موقع مجلس التدريب الصناعي/www.itcegypt.eg

[4])) يعد قانون العمل المصري رقم 91 لسنة 1959م أول قانون عمل بمصر يتضمن تنظيما خاصا لعقد التدريب أو التدرج, حيث راعى المقنن أن المتدرب لا يعتبر عاملا ولا يخضع من حيث الأصل لنفس الحماية التي يتمتع بها العامل, ولما کان المتمرن يقوم بعمل يماثل العامل فقد خشي المشرع أن يکون المتمرن محل اساءة أو استغلال, کما حرص المقنن من جانب أخر على ضبط الأحکام التي تشجع أصحاب الأعمال على التدريب, لذا سعى لهذا التنظيم سدا للنقص الذي کان قائما في ظل القوانين السابقة, حماية للراغبين في تعلم مهنة أو صناعة, ورعاية لحقوقهم وتشجيعا لأرباب الاعمال بما يتلاءم مع مصلحة الاقتصاد القومي. أما قبل هذا القانون فکان عقد التدريب من العقود غير المسماة يحکمه القواعد العامة في نظرية الالتزام.

علما بأن العامل المتدرج في ظل هذا التنظيم الخاص يظل يستفيد من ناحية أخرى من بعض النصوص الأخرى الواردة في قانون العمل والتي لا تتعارض مع طبيعة التدرج المهني, حيث ان الطبيعة الخاصة لعقد التدرج لا تنفي ان العامل المتدرج يؤدي عملا لحساب صاحب العمل, ويخضع في أدائه لرابطة التبعية وما تفرضه من سلطة رئاسية لذلک کان منطقيا ان يستفيد العامل المتدرب بقواعد الحماية المستندة إلى هذه التبعية. د. حمدي عبد الرحمن: مذکرات في قانون العمل, دار الفکر العربي, 1974-1975م, ص131. د. حسام الاهواني: شرح قانون العمل رقم 137لسنة 1981م, 1981-1982م, ص184.

[5])) محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالکي (المتوفى: 1230هـ): حاشية الدسوقي على الشرح الکبير, دار الفکر, بدون طبعة, بدون تاريخ, ج4, ص10.

[6])) د. صوفي ابو طالب: تطبيق القانون الروماني في مصر الرومانية, بحث بمجلة القانون والاقتصاد, العددان الثالث والرابع, السنة الثامنة والعشرون, سبتمبر وديسمبر 1958م, ص372 وما بعدها.

[7])) د. أحمد إبراهيم حسن: العلاقة بين القانون الروماني والقانون المصري في العصر الروماني, مؤسسة الثقافة الجامعية, الإسکندرية, بدون تاريخ, ص84.