نوع المستند : المقالة الأصلية
المؤلف
أستاذ القانون الجنائى المساعد کلية الحقوق – جامعة القاهرة
نقاط رئيسية
تکملة المقال داخل الملف المرفق
الموضوعات الرئيسية
مقدمة
تمهيـد
تندرج مکافحة الکسب غير المشروع ضمن سياسة حکومية تهدف إلى دعم شفافية الحياة العامة، باعتبارها عنصراً لازماً لإرساء ديموقراطية متحضرة ومثالية([1]). ولما کانت الوظيفة العامة تمنح صاحبها سلطةً خطيرةً، يسندها ما للدولة من سطوة، فهى تتيح الموظف نفوذاً يستثمره فى خدمة أغراضها. والأصل فى هذا النفوذ أنه أمانة بين يديه، لا يتوخى فى إعماله غير الحق دون طمع فى مغنم شخصى([2]). ولهذا فقد تعددت أدوات الشارع الجنائى فى مصر فى مکافحة ظاهرة الفساد الإدارى والمالى. منها ما جاء بنصوص عامة أوردتها مدونة قانون العقوبات، کتلک المنظمة لمکافحة الاعتداء على نزاهة الوظيفة العامة فى الباب الثالث من الکتاب الثانى، أو المتعلقة بمناهضة العدوان على المال العام فى الباب الرابع من هذا الأخير. منها ما شملتها تشريعات خاصة، عقابية وغيرها، إستشعاراً من المشرع بضرورة کفالة مواجهة تشريعية أکثر فاعلية لتلک الظاهرة.
وفى هذا السياق أصدر المشرع المصرى العديد من التشريعات، کقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 106 لسنة 2013، فى شأن حظر تعارض مصالح المسئولين فى الدولة([3])، الذى عَّرف المسئول الحکومى والشخص المرتبط به والتعارض المطلق والنسبى للمصالح، وبيَّن کيفية تجنبه وعلاجه، وکقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 18 لسنة 2015، بإصدار قانون الخدمة المدنية، الذى نظم تقييم الأداء الوظيفى والمدونات السلوکية والأخلاقية للعاملين والتأديب والمجازاة([4]). ويلاحظ على هذين القانونين أنهما من التشريعات الحديثة، التى يتغير فى شأنها الإدلاء بدلوٍ، يتصل بتقييم مبلغ أثرها فى تحقيق الغاية المرجوة منها، إلا بعد انقضاء فترة زمنية کافية.
ومن هذه القوانين ما هو قديم العهد نسبياً، تنبه إليها المشرع الجنائى منذ زمن، فکرسها وفقاً لعلة تشريعية تستجيب لملامح المجتمع المصرى آنذاک. ثم ما لبث أن أخضعها لتعديلات جزئية تارة، ولصياغة کلية جديدة تارة أخرى. وهنا نخص بالذکر قانون الکسب غير المشروع الذى بدأت أولى حلقاته التشريعية بموجب المرسوم بقانون رقم 193 لسنة 1951، مروراً بالقانون رقم 11 لسنة 1968، وانتهاءاً بالقانون الحالى رقم 62 لسنة 1975([5]).
وبوجه عام، اتسمت السياسة الجنائية لمواجهة جرائم العدوان على المصلحة العامة فى مصر خلال الحقبة الزمنية التالية لثورة يوليو 1952 بقدر من الإتساع. فإزدهرت الأفکار الاشتراکية، وأضحت جزءاً من العقيدة الوطنية للأفراد، وانتشرت حرکات التأميم للمشروعات الاجتماعية الکبرى. فتوالى إصدار القوانين الموسعة من نطاق حماية هيبة الدولة وسياستها الاشتراکية([6]). وقد أقتضى ذلک – من وجهة نظر المشرع – تنقية العمل العام من شوائب الانحراف واستغلال السلطة من قبل موظفى الدولة، فجاء قانونى الکسب غير المشروع سنة 1951 و1968 تعبيراً جلياً عن هذا الإتجاه.
وفى حقبة زمنية تالية، دخلت مصر عصر الانفتاح الاقتصادى، وتزايدت خلالها الأموال والمصالح بشکل لافت للنظر. ومع ذلک ما فتىء تدخل الدولة فى کافة المجالات، ولا سيما الاجتماعية والمالية، وظهرت العديد من المشروعات التى تشارک الدولة فى ملکيتها إلى جانب القطاع الخاص. وقد أفرز ذلک مساحةً مشترکةً للتماس بين موظفى الدولة وعمالها من جهة ورجال الأعمال وأصحاب المصالح من جهة أخرى، وهو ما خلق فى النهاية بيئةً خصبةً أمام ضعاف النفوس من أفراد الطائفة الأولى للانحراف بالعمل العام واستغلاله، جرياً وراء ثراء غير مشروع([7]). وهو ما إقتضى من المشرع الجنائى إعادة تقييم أحکام قانون الکسب غير المشروع فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى، فيما يتعلق بنطاق تطبيقه من حيث الأشخاص، أو الموضوع.
وبعد مرور أکثر من أربعين عاماً على صدور قانون الکسب غير المشروع الحالى رقم 62 لسنة 1975، شهدت خلالها مصر من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ما هو کفيل بتقديم تقييم علمى دقيق لمدى فاعلية القانون القائم فى مکافحة الظاهرة محل البحث، ينطق الواقع العملى بفشل الأخير فى تحقيق أهدافه، لا سيما بعد ثورتين شعبيتين، کان الفساد المالى والإدارى عماداً لأحدهما.
وانطلاقاً من الوضع التشريعى والعملى القائم، تتجه الدوائر التشريعية فى مصر إلى إصدار قانون جديد لمکافحة الکسب غير المشروع، استشعاراً من جانبها بأهمية سد مواطن الضعف والقصور التى أفرزها التطبيق خلال الأعوام الماضية. وقد تجلى ذلک فى مشروع قانون، جاء فى ثمانية وأربعين مادة، وافقت عليه اللجنة العليا للإصلاح التشريعى فى 3/3/2015، ثم أحيل إلى مجلس الوزراء، الذى قرر بجلسته المعقودة فى 11/3/2015 الموافقة عليه والإحالة إلى مجلس الدولة للمراجعة النهائية واتخاذ إجراءات الاستصدار. غير أن الرأى قد تغير خلال الأشهر التالية، فانتُزع جزءاً من المشروع، وصدر به تعديل تشريعى على القانون الحالى رقم 62 لسنة 1975 فى 21/7/2015، مقتصراً على مسائل معينة، سوف نطرحها فى ثنايا بحثنا.
([1]) M. Fekl, Moderniser la vie publique en luttant contre
l' «enrichissement illicite», Libération, 4 Juin 2013,
http://www. liberation.fr/politique/2013/06/04/, p.1
([2]) الدکتور حسن صادق المرصفاوى، المرصفاوى فى قانون الکسب غير المشروع، جريمة الکسب غير المشروع – إقرار الذمة المالية – إدارة الکسب غير المشروع – الفحص والتحقيق – العقوبات، منشأة المعارف بالإسکندرية، بدون تاريخ، ص9. الدکتور فؤاد جمال عبد القادر، المصلحة المحمية فى جريمة الکسب غير المشروع، مجلة هيئة قضايا الدولة، العدد الثانى، السنة الثانية والثلاثون، أبريل – يونيو 1988، ص141
([3]) الجريدة الرسمية، العدد 45 مکرر (أ)، الصادر فى 13 نوفمبر 2013، السنة السادسة والخمسون، ص2 وما بعدها
([4]) انظر المواد 25، 26، 54، 55، 56 من القرار بقانون رقم 18 لسنة 2015 بإصدار قانون الخدمة المدنية، الجريدة الرسمية، العدد 11 (تابع)، الصادر فى 12 مارس 2015، السنة الثامنة والخمسون، ص34 وما بعدها
([5]) انظر فى تفصيل ذلک، الدکتور فؤاد جمال عبد القادر، الکسب غير المشروع، دراسة مقارنة، رسالة دکتوراه کلية الحقوق – جامعة القاهرة، 1987، ص17 وما بعدها ؛ نبيل محمود حسن السيد، جريمة الکسب غير المشروع وخصوصية الإثبات فيها، المجلة الجنائية القومية، المجلد الثالث والخمسون، العدد الثالث، نوفمبر 2010، ص162