نحو مجلس اقتصادى واجتماعى وبيئى مصرى

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

کلية الحقوق - جامعة القاهرة

نقاط رئيسية

تکملة المقال داخل الملف المرفق

الموضوعات الرئيسية


مقدمــة

یشهد عالمنا تغیرات متلاحقة وعمیقة بتأثیر التطور التکنولوجى والعولمة الاقتصادیة والاجتماعیة، تغیرات تتجاوز القدرات التى یتمتع بها واضعو السیاسات من أجل التحکم فیها([1]).

وتُعد علاقات العمل أکثر العلاقات تأثراً بهذه المتغیرات، ومرآة تنعکس علیها بصدق آثارها، حتى أصبح عالم العمل – فى العقود القلیلة الماضیة – أکثر تعقیداً ولا یمکن التنبؤ به([2]).

وقد اهتدت الأنظمة الدیمقراطیة إلى أن أفضل السُبل لمواجهة هذه المتغیرات هى مشارکة طوائف المجتمع المختلفة فى إدارة الشأن العام، وصیاغة السیاسات والإستراتیجیات الاقتصادیة والاجتماعیة، حتى وإن کان دورهم استشاریاً بحتاً، فهذه المشارکة تسمح بوقوف السلطات العامة على آراء طوائف المجتمع المختلفة فى القرارات المزمع اتخاذها، وردود أفعالهم تجاهها، فضلاُ عن أنها ستولد لدى أفراد المجتمع طاقة دفع ذاتیة لتنفیذ هذه القرارات، وتجعلهم یتحملون – بصورة أو أخرى – جزء من المسؤولیة حال فشلها.

ویُلاحظ أنه حتى قبل موجة العولمة التى اجتاحت العالم منذ سنوات، فطن الکثیر من الأنظمة إلى أهمیة الحوار والمشارکة المجتمعیة فى صیاغة القوانین والإستراتیجیات التى تحکم علاقات العمل، فعززت الحوار الاجتماعى الذى بدأ ثنائیاً قاصراً على العمال وأصحاب الأعمال، ثم ثلاثیاً بانضمام الدولة إلیهما فى الحوار کطرف محاید، ثم ما لبث أن تطور الحوار الاجتماعى فاتخذ نمطاً موسعاً یضم فضلاً عن العمال وأصحاب الأعمال فئات أخرى عدیدة من المجتمع.

والحوار الاجتماعى لیس غایة فى ذاته، بل هو آلیة تساهم فى الوصول إلى التنمیة المستدامة، وتتحقق بها العدالة الاجتماعیة، ومن ثم السلام الاجتماعى والاستقرار الاجتماعى والسیاسى، وبذلک یتعین ألا یکون الحوار الاجتماعى موسمیاً أو لمعالجة أزمة معینة أو لحل نزاع جماعى، بل یجب أن یصبح أسلوب حیاة متخذاً إطاراً مؤسسیاً دائماً، وأکثر الصور انتشاراً فى العالم لمأسسة الحوار الاجتماعى هى المجلس الاقتصادى والاجتماعى.

والمجلس الاقتصادى والاجتماعى مجلس استشارى یضم ممثلین عن فئات وقطاعات المجتمع المختلفة فضلاً عن خبراء ومتخصصین، تستشیره السلطات العامة فى مشروعات القوانین والسیاسات العامة.

وقد انتشر وجود المجلس فى الدول الأوروبیة بعد الحرب العالمیة الأولى([3])، إیماناً منها بأن مشارکة طوائف المجتمع فى رسم السیاسات العامة یساهم حتماً فى تسریع وتیرة إعادة البناء والإصلاحات التى شهدتها هذه الدول فى مرحلة ما بعد الحرب.

وما لبث أن انتشر وجود المجالس الاقتصادیة والاجتماعیة فى العدید من البلدان، ولم تکن البلاد العربیة بمعزل عن هذا الاتجاه، فقام العدید منها بتکوین مجالس فیها.

والمجلس الاقتصادى والاجتماعى بترکیبته التى تضم ممثلین عن طوائف المجتمع المختلفة مع خبراء ومتخصصین یُعزز التعاون والحوار بین مختلف قطاعات المجتمع، ویجعل کل فئة منهم تتسامى عن مصالحها الشخصیة أو القطاعیة وتُعلى المصلحة العامة، وهو صورة مثالیة للتعاون بین الدولة وأفراد المجتمع إذ یسمح للأخیرین بالمشارکة فى وضع السیاسة الاقتصادیة والاجتماعیة للدولة، ودراسة المتغیرات الواقعة فى المجتمع فى مجالات اختصاص المجلس، واقتراح ما یرونه ضروریاً من تعدیلات، ویُطلع السلطات العامة على آراء تمثل مختلف جوانب الهیکل الاجتماعى، ویبصرها بنتائج وردود الأفعال المحتملة لقراراتها، والتنوع فى تکوین المجلس یمنحه ثقلاً ومصداقیة لدى مختلف الأطراف.

ولا یوجد المجلس الاقتصادى والاجتماعى على المستوى الداخلى فحسب، بل له وجود ملموس على المستویین الدولى والإقلیمى، فعلى المستوى الدولى یُوجد المجلس الاقتصادى والاجتماعى للأمم المتحدة کأحد أجهزتها الرئیسیة، وعلى المستوى الإقلیمى أُنشىء المجلس الاقتصادى والاجتماعى لجامعة الدول العربیة.

وفى مصر، ومع التغیرات التى شهدتها فى السنوات القلیلة الماضیة، ومع المشکلات التى یشهدها مجال العمل والمتراکمة منذ عقود وتحتاج إلى حلول جذریة، أصبح الحوار الاجتماعى ضرورة لا بدیل عنها لمواجهة هذه المشکلات، ولا نقصد بذلک حواراً ثنائیاً أو ثلاثیاً، بل حواراً موسعاً یشمل طوائف المجتمع المختلفة، لذا نرى أن الصیغة المناسبة لمصر هى إنشاء مجلس اقتصادى واجتماعى وبیئى یضم ممثلین عن فئات المجتمع المختلفة مع خبراء ومتخصصین، یؤخذ رأیهم فى الحسبان عند وضع السیاسات وتسترشد السلطات بآرائه عند اتخاذ القرارات.

والمجلس المُقترح لا یأتى من فراغ، بل یؤسس بعد دراسة التجارب العالمیة والإقلیمیة فى هذا الشأن لنصل إلى الصیغة الملاءمة لظروفنا.

وقد رأینا أن نمهد لهذه الدراسة بالحدیث بإیجاز عن الحوار الاجتماعى باعتبار المجلس أحد أهم آلیاته، ثم نتناول بعض نماذج المجلس على المستوى الدولى والإقلیمى والداخلى، ونختتم دراستنا بالحدیث عن تکوین مجلس اقتصادى واجتماعى وبیئى مصرى.

وتنقسم دراستنا – بذلک – إلى فصلین یسبقهما مبحث تمهیدى على النحو التالى:

مبحث تمهیدى: الحوار الاجتماعى.

الفصل الأول: المجلس الاقتصادى والاجتماعى على المستویین الدولى والإقلیمى.

الفصل الثانى: المجلس الاقتصادى والاجتماعى على المستوى الداخلى.

والله الموفق والمستعان



([1]) منظمة العمل الدولیة – نحو مئویة منظمة العمل الدولیة «الحقائق والتجدد والالتزام الثلاثى» – مؤتمر العمل الدولى – الدورة 102 – سنة 2013 - تقریر المدیر العام – التقریر الأول "أ" – مکتب العمل الدولى – الطبعة الأولى – جنیف 2013 – ص6.

([2]) منظمة العمل الدولیة «حمایة العمل فى عالم عمل آخذ فى التحول» - مؤتمر العمل الدولى – الدورة 104 – سنة 2015 – التقریر السادس – الطبعة الأولى – جنیف 2015 – ص65.

([3]) یرى بعض الکتاب أن بدایات فکرة المجلس تعود إلى القرن السادس عشر حینما أنشأ الملک هنرى الرابع ملک فرنسا مجلساً للتجارة، وفى سنة 1848 أُنشئت فى فرنسا لجنة استشاریة للعمل مهمتها تحضیر السیاسات الاجتماعیة للحکومة، وکانت تتألف من 500 عضواً نصفهم من العمال، والنصف الآخر من أصحاب الأعمال. د. هیکل الراعى «المجلس الاقتصادى والاجتماعى» - ص2.                                                          

www.is4.uledu.lb˃pdf