المواجهة الجنائية الإجرائية للجريمة الإرهابية دراسة تحليلية للنصوص التشريعية المصرية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

أستاذ القانون الجنائي کلية الحقوق – جامعة القاهرة

نقاط رئيسية

تکملة المقال داخل الملف المرفق

الموضوعات الرئيسية


مقدمة

- أهمیة الدراسة ونطاقها:

تطورت أسالیب الجریمة على مختلف أنواعها وأشکالها تطورا یواکب تطور أنماط الحیاة فی وقتنا الحاضر، فاستغل مرتکبوها ما توصل إلیه العلم وأنتجته التقنیات الحدیثة فی ارتکاب جرائمهم باحترافیة وعلى نطاق واسع، فضلا عن تمکنهم من الفرار من ید العدالة الجنائیة. والجریمة الإرهابیة لیست بعیدة عن هذا التطور، فلم یعد العنف التقلیدی المجرد أسلوبها، بل تنوعت وسائل وأسالیب ارتکابها، واختلط العنف فی تنفیذها بوسائل التقنیة الحدیثة، فامتدت آثارها الهدامة إلى نطاقات واسعة. وأصبح ارتکاب الجریمة الإرهابیة والتحریض علیها وتمویلها یجری من خلال وسائل التقنیة الحدیثة فی مجال الاتصالات، سواء عبر شبکة المعلومات الدولیة أو شبکات الاتصالات الحدیثة. فصارت تستغل هذه التقنیات الحدیثة فی نقل الأموال والتکلیفات بین قیادات التنظیمات الإرهابیة والأفراد المنتمین لها، فضلا عن تلقینهم طرق تصنیع المتفجرات وتحدید المواقع المستهدفة. ومن هنا أصبحت الجرائم الإرهابیة أشد خطرا من ذی قبل على أمن وسلامة المجتمع والمؤسسات والأفراد، لدرجة أصبحت مواجهتها أمرا حتمیا على المستویین الوطنی والعالمی لبقاء المجتمعات واستقرارها وتنمیتها ورخائها.

وتعد المواجهة القانونیة الجنائیة للجریمة الإرهابیة أحد دروب المواجهة الضروریة لمکافحة هذه النوعیة الخطیرة من الجرائم ومعاقبة مرتکبیها. لکنها مواجهة غالبا ما تکون لاحقة على وقوع الجریمة وتأتی بعد أن تتحقق آثارها الضارة والسیئة على المجتمع والأفراد، وقلیلا ما تکون استباقیة من خلال ضبط الجریمة ومرتکبیها أثناء التحضیر والإعداد لها وقبل تنفیذها فعلیا. ونظرا لأن مضمون هذه المواجهة الجنائیة یتمثل فی الملاحقة القضائیة لمرتکبی هذه الجرائم، فإن تأثیرها، وعلى الرغم من أهمیته لإقامة العدالة الجنائیة وتحقیق الردع، یظل محدودا إعمالا لمبدأ شخصیة المسؤولیة الجنائیة والعقوبة. فلا مجال لهذه المواجهة القانونیة الجنائیة إلا بشأن مرتکبی الأفعال التی یجرمها القانون، بحیث یبقى غیرهم ممن یعتنق الفکر الإرهابی بعیدا عن المواجهة القانونیة طالما لم تتجسد أفکاره فی صورة أفعال یجرمها القانون.

ولذلک فإنه یتعین لمواجهة هذه الظاهرة الخطیرة التی أصبحت تضرب المجتمعات على نطاق واسع، اتباع دروب عدیدة للمواجهة على مختلف الأصعدة السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة والثقافیة. فالقضاء على الفساد بکافة صوره وعلى کافة الأصعدة، فضلا عن الغش والاحتکار، وهو الذی أصبح منذ عدة عقود ضاربا بجذوره فی أعماق الدولة والمجتمع على حد سواء، یعد دربا من دروب المواجهة. فتحقیق العدالة الاجتماعیة والمساواة فی الحقوق والواجبات وکفالة تکافؤ الفرص سیسهم قطعا فی القضاء على حالة الإحباط والظلم التی یشعر بها غالبیة المواطنین جراء انسداد فرص المنافسة الشریفة فی الحصول على حقوقهم الأساسیة؛ سواء فی ذلک التعلیم الجید للجمیع دون تمییز، والعلاج بکرامة إنسانیة للجمیع، والسکن الملائم للجمیع دون احتکار أو انحیاز أو متاجرة، وإتاحة فرص العمل بمعاییر موضوعیة تعتمد على الکفاءة والتخصص ولیس الوساطة والتوریث، ودون تدخل تقاریر وتحریات أمنیة غیر منطقیة، منعدمة الکفاءة والمهنیة والمصداقیة، لدرجة أنها تحاسب الشخص عن درجات من القرابة، لا یعلم عنها شیئا ولم یلتق بها فی حیاته، لحرمانه من تولی وظائف معینة.

وبالإضافة إلى ذلک، یتعین کفالة حقوق الأطفال الذین لا مأوى ولا معیل لهم وتوفیر کافة احتیاجاتهم التعلیمیة والصحیة وتوفیر التدریب المهنی اللائق لهم بعیدا عن استغلالهم من أصحاب الأعمال ووقایتهم من مخاطر الشوارع. ویجب أن یتواکب ذلک مع العمل على نشر الفکر المعتدل وترسیخ مفاهیم التنوع الثقافی والحضاری لدى النشء واحترام وقبول الآخر، باعتبار الاختلاف والتنوع سمة الخلق. ولن یتأتى ذلک إلا بإعلاء قیمة العلم وقیمة العمل، وترسیخ مفاهیم الاتقان والتجوید وإسناد العمل لأصحاب التخصص، ومحاربة العشوائیة والفوضى وعدم الاحترافیة السائدة فی جمیع المهن والتخصصات والأعمال.

وفضلا عن ذلک، فإن مواجهة الإرهاب لن تؤتی ثمارها المرجوة إلا بتضافر الجهود الدولیة الصادقة للقضاء على هذه الآفة العالمیة العابرة للحدود. فبترسیخ وسائل التعاون الدولی لمکافحة الجریمة الإرهابیة لن یجد مرتکبو الجرائم الإرهابیة أرضا خصبة لتنفیذ جرائمهم، حیث تنغلق أمامهم سبل الإیواء ومصادر التمویل، ومنصات الترویج لأفکارهم الهدامة عبر شبکة المعلومات الدولیة وشبکات الاتصالات الحدیثة والقنوات الفضائیة، ووسائل تحویل الأموال وغسلها فضلا عن طرق تهریب الأسلحة والمتفجرات والأفراد سواء کانوا متعاطفین أو مأجورین.

وبالعودة للمواجهة الجنائیة للجریمة الإرهابیة، فإن هذه المواجهة تتمثل، من ناحیة، فی جانب موضوعی یهتم بصور التجریم والعقاب اللازمة لحمایة مصالح المجتمع وحقوق الأفراد ضد مخاطر وأضرار هذه الجرائم، بمعاقبة مرتکبیها وفقا لنصوص عقابیة منضبطة تحترم مبدأ شرعیة الجرائم والعقوبات. کما تتمثل هذه المواجهة، من ناحیة أخرى، فی جانب إجرائی ینظم قواعد وإجراءات الملاحقة الخاصة بجمع المعلومات عن هذه الجرائم ومرتکبیها لإحباط جرائمهم قبل تنفیذها فعلیا، أو إحالتها ومرتکبیها لسلطات التحقیق ثم المحاکمة؛ وهی إجراءات لا غنى عنها فی دولة القانون لوضع القواعد الموضوعیة الخاصة بالتجریم والعقاب موضع التطبیق لإقامة العدالة الجنائیة وتحقیق الردع.

وقد صدر قانون مکافحة الإرهاب فی مصر استجابة لمطالب عدیدة فی هذا الشأن، سواء من القانونیین أو غیرهم من أطیاف المجتمع، وذلک لتحقیق رغبتین أساسیتین؛ الأولى- لیحل محل قانون الطوارئ الذی ساءت سمعته لدى الرأی العام نظرا لإعماله لعقود متعاقبة أُعلنت خلالها حالة الطوارئ فی البلاد من ناحیة، ولتضمنه قواعد استثنائیة بشأن المحاکمة وسلطات واسعة للضبطیة القضائیة من ناحیة أخرى. والثانیة- لمواجهة الهجمات الإرهابیة العنیفة التی تعرضت لها الدولة بمؤسساتها وأجهزتها ومنشآتها فأثرت على حالة المجتمع الاقتصادیة والسیاسیة والاجتماعیة، وانعکست سلبا على حیاة الأفراد الاعتیادیة من حیث حریاتهم وأمنهم وسکینتهم. خاصة أن الهجمات الإرهابیة فی السنوات الأخیرة اتخذت طابعا مختلفا عما تعرضت له البلاد فی عقود سابقة، وذلک باتساع نطاق انتشارها من حیث المکان ومن حیث الموضوع، وتعاظم مصادر تمویلها داخلیا وخارجیا، وتقدم أسالیبها وأدواتها من حیث نوعیة الأسلحة والمتفجرات أو من حیث وسائل التقنیة والاتصالات الحدیثة. ویمکننا إضافة الثالثة- وهی مستمدة من التزام دستوری على الدولة بموجب نصوص الدستور المُعدَّل الصادر فی 18 ینایر 2014، حیث تنص المادة 59 منه على أن " الحیاة الآمنة حق لکل إنسان، وتلتزم الدولة بتوفیر الأمن والطمأنینة لمواطنیها، ولکل مقیم على أراضیها." کما تنص صراحة المادة 237 الواردة ضمن الأحکام الانتقالیة فی الدستور على أن " تلتزم الدولة بمواجهة الإرهاب، بکافة صوره وأشکاله، وتعقب مصادر تمویله، وفق برنامج زمنی محدد، باعتباره تهدیدا للوطن وللمواطنین، مع ضمان الحقوق والحریات العامة. وینظم القانون أحکام وإجراءات مکافحة الإرهاب والتعویض العادل عن الأضرار الناجمة عنه وبسببه."

والحقیقة أن الحاجة لإصدار قانون لمکافحة الإرهاب کانت إجرائیة أکثر منها موضوعیة، حیث یتضمن قانون العقوبات بالفعل قسما خاصا بتجریم الأفعال الإرهابیة والعقاب علیها أُضیف بالقانون رقم 97 لسنة 1992، فی حین کان الأمر یقتصر من الناحیة الإجرائیة على توسیع سلطات النیابة العامة بموجب قانون الإجراءات الجنائیة لدى تولیها التحقیق فی جریمة إرهابیة، أو اللجوء لإجراءات استثنائیة سواء فیما یتعلق بالاستدلال أو بالتحقیق أو بالمحاکمة. غیر أن الحاجة إلى تقنین قواعد جنائیة إجرائیة خاصة لمواجهة الجرائم الإرهابیة لا ینفی أهمیة تجمیع القواعد الموضوعیة والإجرائیة معا فی قانون موحد لمکافحة هذه الظاهرة الهدامة مکافحة قانونیة متکاملة، وهذا ما حدث بالقانون رقم 94 لسنة 2015 بشأن إصدار قانون مکافحة الإرهاب. حیث صدر القانون متضمنا عددا من التعاریف الأساسیة الخاصة بالإرهاب، والعدید من النصوص الموضوعیة الخاصة بتجریم وعقاب الأفعال الإرهابیة بکافة صورها وأشکالها التقلیدیة منها والحدیثة فی صورة مفصلة ومنضبطة، والعدید من النصوص الإجرائیة الخاصة بإجراءات التحری والاستدلال عن الجرائم الإرهابیة وضبط مرتکبیها والتحقیق معهم ومحاکمتهم، وفقا للأدلة المتوافرة، محاکمة عادلة أمام القاضی الطبیعی.

وتظل فی المرتبة الأولى من حیث الأهمیة بشأن إصدار قانون مکافحة الإرهاب، من وجهة نظرنا، ما یتضمنه القانون من قواعد إجرائیة مستحدثة مقارنة بما یتضمنه قانون الإجراءات الجنائیة؛ حیث تکفل هذه القواعد الجنائیة الإجرائیة فاعلیة مکافحة هذه النوعیة الخطیرة من الجرائم بما تتضمنه من خصوصیة فی هذا المجال تکفل حمایة أمن المجتمع وسلامته وسکینة أفراده. وتتمثل هذه الخصوصیة فیما تتسم به من سرعة مطلوبة لمکافحة الجرائم الإرهابیة، وحداثة تواکب التطور الهائل فی وسائل ارتکاب هذه النوعیة من الجرائم.

کما تثیر هذه القواعد الجنائیة الإجرائیة إشکالیات قانونیة وعملیة تتصل بمدى توافقها مع النصوص الدستوریة ذات الصلة من ناحیة، ومدى التزام سلطات إنفاذ القانون ذوی الشأن باحترامها واقعیا من ناحیة أخرى. وتوضیح ذلک، أن إعمال هذه القواعد الجنائیة الإجرائیة سوف یمس بدرجة أو بأخرى ممارسة الأفراد لحقوقهم وحریاتهم التی کفلها الدستور، الأمر الذی یقتضی وضع ضوابط حاکمة تضمن إحداث نوع من التوازن بین حمایة أمن المجتمع والأفراد ضد مخاطر وأضرار الجریمة الإرهابیة وبین صیانة الحقوق والحریات الفردیة، سواء لعموم الناس أو للمتهمین باعتبار أن الأصل فی المتهم البراءة إلى أن تثبت إدانته بحکم قضائی. کما أن التطبیق العملی لهذه القواعد الجنائیة الإجرائیة سیکون محل اهتمام من الجمیع لمراقبة مصداقیته ومراعاته لمبدأ الشرعیة الإجرائیة. ومما لا شک فیه أن نقطة التوازن بین الحقوق المشار إلیها أعلاه یمکن أن تتحرک قلیلا فی اتجاه حمایة أمن المجتمع والأفراد عندما یتعلق الأمر بمواجهة خطر الجرائم الإرهابیة. ومؤدى ذلک أن نقطة التوازن یمکن أن یختلف موضعها على معیار التناسب بین الأمن والحریة بصدد مکافحة الجرائم الإرهابیة مقارنة بالجرائم العادیة، حیث ترتبط نقطة التوازن هذه بمفهوم الضرورة الإجرائیة شدة وضعفا.

ولکل ما تقدم آثرنا أن نحدد نطاق دراستنا فی تحلیل النصوص الجنائیة الإجرائیة الواردة فی قانون مکافحة الإرهاب مقارنة بنظیرتها فی قانون الإجراءات الجنائیة، کلما کان لذلک محل، باعتبار هذه الأخیرة تمثل الشریعة العامة التی تحکم إجراءات الاستدلال والتحقیق والمحاکمة الجنائیة. ونظرا لتأثیر وتأثر أی قانون یتبناه النظام القانونی فی الدولة بعدد من القوانین التی تتضمن قواعد متشابهة أو متعارضة، وجدنا من الملائم أن تشمل هذه الدراسة التحلیلیة کافة النصوص الجنائیة الإجرائیة ذات الصلة فی أی قانون آخر من قوانین الدولة.