التعاقد مع النفس بين النظرية والتطبيق (مفهوم وحکم التعاقد مع النفس وتطبيقاته المعاصرة) CONTRAT AVEC SOI-MÊME ENTRE THÉORIE ET PRATIQUE دراسة مقارنة Étude comparative

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

مدرس القانون المدني کلية الحقوق ـ جامعة القاهرة دکتوراه في القانون الخاص من جامعة مونبيليه (1) بفرنسا

نقاط رئيسية

تکملة المقال داخل الملف المرفق

الموضوعات الرئيسية


مقدمـــــــــــــة

Introduction

تعریف العقد (التعاقد):

Définition du contrat:

1- یقول الله عز وجلّ فی مُحْکم التنزیل: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ([1])، فما لبث أن صدّق مشرّعو القوانین الوضعیة أمر الشارع الحکیم، وتضمنت جُل ـ إن لم یکن کل ـ التشریعات المعاصرة فی مختلف دول العالم أجمع هذه القاعدة الإلهیة الجامعة بعد صیاغتها بما یتناسب وظروف العصر، فتضمنت ـ على سبیل المثال ـ الفقرة الأولى من المادة 148 من القانون المدنی ما نصّه: "یجب تنفیذ العقد طبقا لما اشتمل علیه وبطریقة تتفق مع ما یوجبه حسن النیة"([2]).

وسرعان ما عکف فقهاء القانون ـ من کل صوبٍ وفجٍ ـ على الأخذ بما أوجبته الأحکام الإلهیة من إلزامیة العقود والوفاء بما توجب به من التزامات، واستنبطوا منها الأحکام والمبادئ القانونیة التی تحکم تکوین هذه العقود والآثار التی تترتب علیها والتی یأتی فی مقدمتها مبدأ: "العقد شریعة المتعاقدین"، و"نسبیة أثر العقود"، و"سلطان الإرادة" ([3]).

2- والعقد Contrat والتعاقد مترادفان لمعنى واحد فی اللغة العربیة، فالتعاقد من مشتقات کلمة "عقد"، والعقد یُعرّف لغةً بأنه: «الجمع بین أطراف الشیء وتقویتها، یُقال: عقد طرفی الحبل إذا وصل أحدهما بالآخر بعقدة تمسکها فأحکم وصلها. ویُطلق على الضمان والعهد، یُقال: عاقدته على کذا إذا عاهدته علیه. ویدل على الوجوب، یقال: عقد البیع إذا أوجبه، وجمیع هذه المعانی تدور حول معنى الربط والشد» ([4]).

أما عن التعریف الاصطلاحی للعقد أو التعاقد لدى فقهاء القانون فهو یتمثل عندهم فی: "توافق إرادتین أو أکثر على إنشاء رابطة قانونیة أو تعدیلها أو إنهائها" ([5]).

وقد کان یُمیّز بعض شراح القانون بین مصطلح الاتفاق Convention من جانب، والعقد Contrat من جانبٍ آخر، فالاتفاق عندهم هو توافق إرادتین أو أکثر على إنشاء التزام أو نقله أو تعدیله أو إنهائه، وأما العقد فهو أخص من الاتفاق عند هؤلاء فهو یقتصر على إنشاء التزام أو نقله فقط ([6])، وهذه التفرقة کان لها جذور تاریخیة نقلها القانون المدنی الفرنسی عن بعض شراح القانون القدامى وتضمنتها نصوص القانون المدنی الفرنسی القدیم، ولکن هذه التفرقة قد فقدت أهمیتها الآن بعد أن استعمل المشرع ـ بالمادة 1101 من التقنین المدنی الفرنسی الحالی ـ المصطلحین بمعنى واحد ([7])، وهو ما استقر علیه الفقه والقضاء مؤخراً([8]).



([1]) سورة المائدة، الآیة رقم 1، وقد اختلف أهل العلم والتأویل فی معنى کلمة "العقود" التی أمر الله جلّ شأنه بالوفاء بها فی هذه الآیة الکریمة بعد إجماعهم على أن معناها ینصرف إلى "العهود"، فقال أبو جعفر: «و"العقود" جمع "عقد"، وأصل "العقد"، عقد الشیء بغیره، وهو وصله به، کما یعقد الحبل بالحبل، إذا وصل به شدا. یُقال منه: "عقد فلان بینه وبین فلان عقدا، فهو یعقده"»، وقال فی موضع آخر: «حدثنی المثنى قال: حدثنا أبو حذیفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبی نجیح، عن مجاهد: "أوفوا بالعقود"، ما عقد الله على العباد مما أحل لهم وحرم علیهم. وقال آخرون: بل هی العقود التی یتعاقدها الناس بینهم، ویعقدها المرء على نفسه. (...)، قال الزجّاج: "أوفوا بالعقود" خاطب الله المؤمنین بالوفاء بالعقود التی عقدها الله تعالى علیهم، والعقود التی یعقدها بعضهم على بعض على ما یوجبه الدین. والعقید: الحلیف» (أنظر جامع البیان عن تأویل آی القرآن، لأبی جعفر محمد بن جریر الطبری، حقّقه وأخرج أحادیثه: محمود محمد شاکر، ج 9، دار المعارف المصریة، 1423هـ/ 2003، ص 452ـ453 & وراجع أیضاً: تفسیر القرآن العظیم للحافظ أبی الفداء اسماعیل بن عمر بن کثیر القرشی الدمشقی المعروف بابن کثیر، تحقیق سامی بن محمد السلامة، دار طیبة للطباعة والنشر، 1422هـ / 2002م، ج 10، ص 7-8).

([2]) ویقابلها ـ على سبیل المثال لا الحصر ـ المادة 1134 من التقنین المدنی الفرنسی، والمادة 1337 من القانون المدنی الإیطالی، والمادة 107 من التقنین المدنی الجزائری، والمادة 231 من قانون الالتزامات المدنیة المغربی، والمادة 87 من القانون المدنی الأردنی، والمادة 113 من القانون المدنی السودانی.

([3]) یُقصد بمبدأ العقد شریعة المتعاقدین أنه لا یستطیع أحد أطراف العقد ـ بحسب الأصل ـ أن ینقضه أو یعدل فی أحکامه، ما لم یسمح له العقد نفسه بذلک أو یسمح له به القانون، کما لا یملک أن یصرف آثاره إلى غیره، فالواجب تنفیذ العقد فی جمیع ما اشتمل علیه من أحکام، وهو ما تضمنته الفقرة الأولى من نص المادة 147 من القانون المدنی المصری بقولها: «العقد شریعة المتعاقدین، فلا یجوز نقضه ولا تعدیله الا باتفاق الطرفین، أو للأسباب التی یقررها القانون»، ویُقصد بمبدأ نسبیة أثر العقود انصراف آثار العقد فقط إلى طرفیه وعدم انصرافها إلى الغیر إلا فی حالات معینة وضمن حدود محددة من جهة، ومن جهة ثانیة عدم إمکانیة إلزام الأطراف المتعاقدة إلا بما تضمنه العقد أو تفرضه طبیعة المعاملة، أما مبدأ سلطان الإرادة فیعنی أن الإرادة هی أساس العقد وهی قادرة وحدها على إحداث الآثار القانونیة، راجع لشرحٍ أوفى حول هذه المبادئ على سبیل المثال: عبد الرزاق أحمد السنهوری، الوسیط فی شرح القانون المدنی، الجزء الأول، مصادر الالتزام، الطبعة الأولى، دار النشر للجامعات المصریة، 1952، ص 508 وما یلیها & اسماعیل غانم، النظریة العامة للالتزام، مصادر الالتزام، القاهرة 1968، فقرة 29 وما یلیها، وفقرة 87 وما بعدها & جمیل الشرقاوی، النظریة العامة للالتزام، مصادر الالتزام، الکتاب الأول، دار النهضة العربیة 1995، ص 56 وما بعدها & عبد المنعم البدراوی، النظریة العامة للالتزامات، الجزء الأول، مصادر الالتزام، دار النهضة العربیة 1968، ص 59 وما بعدها.

([4]) المُفردات فی غریب القُرآن، لأبی القاسم الحُسین بن مُحمَّد، المشهور بالرَّاغب الأصفهانی،، تحقیق مُحمَّد سیِّد الکیلانی، الطبعة الأولى، دار المعرفة، بیروت، 1985، ص 510 & وقد اتفق أئمة اللغة على أن إطلاق لفظ العقد له معنیین: «العقد هو ما یعقده العاقد على أمر یفعله هو، أو ما یعقد على غیره فعله على وجه إلزامه إیاه فسمى البیع والنکاح وسائر عقود المعاوضات عقوداً لأن کل واحد من طرفی العقد ألزم نفسه الوفاء به، وسمی الیمین على المستقبل عقداً لأن الحالف ألزم نفسه الوفاء بما حلف علیه من الفعل أو الترک، وکذلک العهد والأمانة لأن معطیها قد ألزم نفسه الوفاء بها وکذا کل ما شرط الإنسان على نفسه فی شیء یفعله فی المستقبل فهو عقد وکذلک النذور وما جرى مجرى ذلک»، راجع فی هذا الشأن: أحکام القرآن، للإمام أبی بکر أحمد بن علی الرازی المشهور بالجصاص فی تفسیر قوله تعالى: ﴿یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، دار إحیاء التراث العربی 1992، ج2، ص 294، 295 & وفی المعنى نفسه: لسان العرب، لأبی الفضل جمال الدین محمد بن مکرم بن علی بن أحمد الأنصاری الخزرجی الإفریقی المصری، المعروف بابن منظور، الطبعة الأولى، بالمطبعة الأمیریة ببولاق مصر، 1301 هجریة، مادة عقد.

([5]) راجع على سبیل المثال لا الحصر: السنهوری، الوسیط، السابق، ص 117 & اسماعیل غانم، النظریة العامة للالتزام، مصادر الالتزام، السابق، فقرة 27، ص 31 & توفیق حسن فرج، النظریة العامة للالتزام، نظریة العقد، مطبعة دار النشر للثقافة بالإسکندریة، 1969، ص 234.

([6]) أشار إلى هذه التفرقة بین العقد والاتفاق على سبیل المثال من الفقه المصری: السنهوری، السابق، ص 117 & جمیل الشرقاوی، النظریة العامة للالتزام، مرجع سابق، ص 52 & ولمزید من البیان راجع أیضاً من الفقه الفرنسی:

Pour cette distinction v. notamment, L. JOSSERAND, théorie générale des obligations, les principaux contrats du droit civil, les contrats, tome I, Sirey 1930, p. 23 et s. & G. MARTY et P. RAYNAUD, Droit civil, Introduction générale à l’étude du droit, t. III, 1er v., 2e éd., par F. CHABAS, Sirey 1956, p. 78 et s. & Ch. AUBRY et Ch.-F. RAU, Cours de droit civil français, Tome I, par Paul Esmein, 7e éd., Librairies techniques 1961, p. 134 et s. & J. CARBONNIER, Cours de droit civil, année 1956-1957, service d’édition des cours de droit de la faculté de droit, Paris, 1956, p. 11& Contra, B. OPPETIT, «L’engagement d’honneur», D 1979, p. 111 & E. PUTMAN, «Kant et la théorie du contrat», RRJ 1996, p. 85 et s. & E. SAVAUX, La théorie générale du contrat, mythe où réalité, LGDJ, t. 264, 1997, p. 12.

([7]) یعرّف المشرع الفرنسی العقد بالمادة 1101 من تقنینه المدنی بأنه: "اتفاق یلتزم بمقتضاه شخص أو أکثر نحو شخص أو أکثر بإعطاء شیء أو القیام بعمل أو بالامتناع عنه".

Art. 1101 du Code civil français: «Le contrat est une convention par laquelle une ou plusieurs personnes s'obligent, envers une ou plusieurs autres, à donner, à faire ou à ne pas faire quelque chose» & v. pour les jurisprudences, Cass. 3e civ., 19 sep. 2012, D., n° 11-13.679, n° 11-13.789 & Cass. 3e civ., 3 nov. 2004, D., n° 03-15.624.

([8]) ومن الجدیر بالذکر أن القضاء المصری قد استقر بدوره على المساواة بین لفظی العقد والاتفاق، فها هی محکمة النقض المصریة تقضی وبکل وضوح: «العقد ـ وعلى ما جرى به قضاء هذه المحکمة ـ یصدق على کل اتفاق یراد به إحداث أثر قانونی (...)»، نقض مدنی 27 ابریل 1983، مجموعة أحکام النقض، س 34، طعن رقم 192، ص 948 & نقض مدنی 31 مارس 1985، مجموعة النقض، س 36، رقم 112، ص 536.