دور البنوک المرکزية فى إرساء ونجاح قواعد السياسة النقدية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

مدرس الاقتصاد والمالية العامة والتشريع الضريبى کلية الحقوق جامعة القاهرة

نقاط رئيسية

تکملة المقال داخل الملف المرفق

الموضوعات الرئيسية


مقدمــــة

یعتبر القطاع المصرفی أحد أهم القطاعات الرائدة فی الاقتصادیات الحدیثة، لیس فقط لدوره المهم فی جمع المدخرات وتحویلها إلى استثمارات- إلى جانب عملها على جذب الاستثمارات الأجنبیة وتوجیهها لتمویل المشاریع الأکثر کفاءة وإنتاجیة وربحیة، وتمویل الاستثمار الذی یمثل عصب النشاط الاقتصادی- بل لکونه أصبح یمثل حلقة الإتصال الأهم مع العالم الخارجی. وأصبح تطور القطاع المصرفى ومتانة أوضاعه معیاراً للحکم على سلامة الاقتصاد الوطنى ومدى قدرته على جذب رؤوس الأموال المحلیة والأجنبیة

-ویقوم الجهاز المصرفی بدوراً محوریاً فی قضیة التنمیة، لیس ذلک فحسب بل یمکن القول إن النظام المصرفى فی أی مجتمع یکون مسئولاً بدرجة کبیرة عن نوعیة النمو الاقتصادی الذی یحققه ذلک المجتمع، وهل ذلک النمو جید وایجابی ویتسم بالعدالة أم أن ذلک النمو هو - وفق تعبیر البنک الدولی- نمو زائف وسلبی ویتسم بالانحیاز لصالح طبقة اجتماعیة معینة علی حساب باقى طبقات المجتمع.

-وإذا کان القطاع المصرفی واحداً من أهم القطاعات الاقتصادیة، فإن البنک المرکزی یمثل العنصر الرئیسى لذلک القطاع وزیادة مقدرته على المنافسة والتطور، وهذا لما یقوم به من دور فی إدارة السیاسة النقدیة، والحفاظ على الثبات والاستقرار المالی، وبالتالی إرساء أسس نمو اقتصادی قابل للاستمرار.

-فدور البنک المرکزى فی الاقتصاد هو دور دینامیکی مرّ بتغیرات عدة منذ نشأة ذلک النوع من البنوک، ومن الطبیعی أن یتواصل ذلک التطور ما دام تطور هیکل الاقتصاد واتسعت قاعدة الأدوات التی یستخدمها لتطبیق سیاسته النقدیة.

-وقد تطورت أهداف ومقاصد البنوک المرکزیة من دور بسیط یتمثل فی عملیة إصدار النقود وتنظیم أعمال المصارف التجاریة، إلى دور تنموی دعمته الأدبیات الاقتصادیة وخصوصاً تلک الصادرة عن المؤسسات الدولیة کالبنک والصندوق الدولیین. فمنذ انتهاء الحرب العالمیة الثانیة وحتى أواخر السبعینات، راجت فکرة تدخل الدولة فی النشاط الإقتصادی، وهیمنت على أکثریة الدول فکرة التخطیط الإقتصادی لتحقیق التنمیة. وقد فرض ذلک الواقع على المصارف المرکزیة ولاسیما فی الدول النامیة أن تتخطى فی سیاستها النقدیة مقصد الإستقرار النقدی إلى هدف المساهمة فی مساندة النمو الإقتصادی. ولتحقیق هذا الهدف کان على البنوک المرکزیة أن تتوسع فی تمویل عجز الموازنات العامة للحکومات، وأن تمیل إلى التأثیر على السیاسات الإئتمانیة للمصارف من خلال الإجراءات الإنتقائیة المباشرة لتوجیه الإئتمان صوب القطاعات التی ترغب الدولة بتنمیتها.

-وبعد المضى فی ذلک الإتجاه لأکثر من ثلاثة عقود، أثبتت التجربة العملیة عدم صحة ذلک الاسلوب، حیث أدى التوسع النقدی المبالغ فیه إلى تزاید مستویات التضخم، والذی أدى بدوره إلى صعود مخاوف عدم الیقین ومن ثم الإضرار بالنمو الإقتصادی. ومن ناحیة ثانیة أدت الممارسات الإنتقائیة لأدوات السیاسة النقدیة المباشرة إلى إساءة استعمال الموارد الاقتصادیة وإضعاف الإنتاجیة، الأمر الذی انعکس سلبیاً على معدلات النمو الإقتصادی. إلا أن التقدم الاقتصادی المصحوب بظهور الأسواق المالیة ذات الدرجة العالیة من الجدارة خفض نوعاً ما من الدور البالغ الأهمیة الذی تلعبه أدوات السیاسة النقدیة المباشرة.

 کما أن الاعتماد على الطرق المباشرة لإدارة السیاسة النقدیة مافتئ التنازل عنه یتزاید من سنة لأخرى لصالح الأسالیب غیر مباشرة فی مختلف الدول، وبات التعویل علیها للوصول إلى غایات السیاسة النقدیة قلیل للغایة وذلک لما فرضه النظام الدولى الحدیث من انفتاح اقتصادی وعولمة للأسواق. الأمر الذى جعل تلک الأدوات تتصف بالسلبیة أکثر من الإیجابیة فکان هذا سبباً کافیا للتحول من الأدوات المباشرة للسیاسة النقدیة إلى الأدوات غیر المباشرة، والتى تتمثل فی إلغاء تثبیت أسعار الفائدة وترک أمر تحدیدها لقوى السوق والمتمثلة فى ظروف العرض والطلب، والاعتماد على قوى السوق فی تسییر عجلة الاقتصاد والعمل على الذهاب بعیداً عن أسلوب التوجیهات والقرارات الإداریة التحکمیة.

- وقد فرض التطور فى تحویل مسارات السیاسة النقدیة وانتهاج الأسالیب غیر المباشرة، إلى تغیر جلى فی دور المصارف المرکزیة منذ أوائل الثمانینات، حیث بات هذا الدور یتمرکز مجدداً حول إرساء سیاسة نقدیة سلیمة ذات فاعلیة فی تحقیق الاستقرار النقدی فى المقام الأول. وتحقیقاً لذلک المقصد، اتجهت البنوک المرکزیة فی الدول المتقدمة إلى الترکیز على استهداف معدل التضخم کهدف رئیسى لسیاستها النقدیة والترکّیز على الاستقرار النقدی الداخلى والاستقرار النقدى الخارجى، وترقیة الأدوات التی تستخدمها لتطبیق تلک السیاسة، فی الوقت الذی زاد فیه التوجه نحو الاهتمام المتنامى بمفهوم حوکمة الجهاز المصرفى، فضلاً عن التوجه صوب تعزیز استقلالیة البنوک المرکزیة بما یمکنها من تحقیق تلک االغایات لیس فقط بدرجة أکبر من الدقة والفاعلیة ولکن کذلک بمزید من الشفافیة والإفصاح إلى غیر ذلک من المکونات الرئیسیة للتطبیق الصحیح للحوکمة فی الجهاز المصرفى.

ولذلک تحولت السیاسات النقدیة للبنوک المرکزیة من سیاسات نقدیة مباشرة تستهدف متغیرات نقدیة إلى استخدام السیاسات النقدیة غیر المباشرة التی تستهدف السیطرة على معدلات متفق علیها للتضخم فی هذه الدول. ومن سیاسات نقدیة تتأثر کثیرا بالسیاسات المالیة فی بعض الدول إلى استقلالیة أکبر للبنوک المرکزیة فی تنفیذ السیاسات النقدیة واتفاق کامل حول أهداف السیاسة الاقتصادیة للدولة.

-ولقد ساعدت تلک التطورات والتجارب التى تم تطبیقها فی الدول المتقدمة، وکذلک فی بعض الدول النامیة إلى التوصل إلى مبادئ عامة للممارسات الصحیحة فی مجال رسم وتنفیذ السیاسات النقدیة تسترشد بها البنوک المرکزیة فى جمیع أنحاء العالم. ولذلک فإن نجاح الدور الذی تقوم به البنوک المرکزیة فی إرساء أسس سیاسة نقدیة سلیمة وفی بناء جهاز مصرفی یتمتع بالملاءة والکفاءة، وأصبح یعتمد فى الوقت الحالى على مجموعة من القواعد والمبادىء الواضحة والمستقرة والتى تضفى على السیاسة النقدیة ثوباً من الکفاءة والرشادة. ویطلق على هذه المبادىء والقواعد مصطلح حوکمة الجهاز المصرفى. وینصرف مصطلح حوکمة الجهاز المصرفى إلى الطریقة التی تدار بها شئوون البنک من خلال الدور المنوط به کل من مجلس الإدارة والإدارة العلیا بما یؤثر على تحدید مقاصد البنک ومراعاة حقوق أصحاب المصالح وحمایة حقوق المودعین.