الطبيعة القانونية للتنمية المستدامة في إطار أحکام القانون الدولي العام

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

مدرس القانون الدولي العام-کلية الحقوق-جامعة القاهرة

نقاط رئيسية

تکملة المقال داخل الملف المرفق

الموضوعات الرئيسية


مقدمة

أولاً: موضوع البحث:

تعتبر التنمیة المستدامة من المسائل التی تثیر بعض الجدل فی إطار أحکام القانون الدولی العام. ویرجع السبب فی ذلک إلى عدم وجود تحدید دقیق لمفهومها ونطاق تطبیقها([1]). ومع ذلک، أصبح لفکرة التنمیة المستدامة تأثیر واهتمام کبیر من جانب أعضاء المجتمع الدولی، خاصة بعد مؤتمر الأمم المتحدة بشأن البیئة والتنمیة فی ریو دی جانیرو عام 1992 (مؤتمر ریو). وقد انعکس ذلک بشکل جلی فی العدید من المواثیق الدولیة التی استخدمت اصطلاح التنمیة المستدامة وغیرها من الاصطلاحات المنبثقة عنها، مثل الاستخدام المستدام والانتفاع المستدام والإنتاج المستدام والإدارة المستدامة. وقد أدى هذا التنوع فی الاصطلاحات المستخدمة إلى خلق نوع من اللبس وعدم الوضوح فیما یتعلق بمفهوم التنمیة المستدامة ونطاق أثرها القانونی، فضلاً عن طبیعتها القانونیة فی إطار أحکام القانون الدولی([2]).

وقد بذل المناصرون للبیئة مجهوداً کبیراً لکی یکون هناک تغیراً فی السیاسات وصناعة القرار من أجل إحداث نوع من التوازن بین احتیاجات الأجیال الحالیة والمستقبلیة، وذلک من خلال الاهتمام بمعالجة الآثار السلبیة على البیئة الناتجة عن الممارسات التی تهدف إلى تحقیق التنمیة الاقتصادیة. کما عمل المناصرون للبیئة أیضاً على أن تتم صیاغة فکرة التنمیة المستدامة فی شکل قواعد ومبادئ قانونیة تسهم فی حل المنازعات القانونیة دون الانتقاص من اعتبارات التنمیة وحمایة البیئة([3]). ولا ینفی ذلک أن فکرة التنمیة المستدامة أصبحت تمثل محوراً أساسیاً داخل الأنظمة القانونیة الوطنیة للدول، عند وضع قواعد قانونیة ومبادئ سیاسیة ملزمة، تهدف إلى إحداث توازن بین البیئة والتنمیة الاقتصادیة([4]).

ویرجع السبب الرئیسی فی التلوث البیئی إلى التنمیة الاقتصادیة التی قامت بها الدول الصناعیة الکبرى إبان فترة الثورة الصناعیة والفترة التی تلتها. وقد کان الهدف الأساسی لتلک الدول هو التقدم السریع والازدهار الاقتصادی دون إیلاء أی اهتمام لاعتبارات حمایة البیئة الإنسانیة، الأمر الذی أدى إلى إحداث أضرار جسیمة للبیئة. ولم یقتصر أثر تلک الأضرار على الحدود الوطنیة للدول التی احدثتها، وإنما امتدت لتؤثر على دول لیس لها ید فی إحداث تلک الأضرار([5]).

ولا یعنی ذلک بالتأکید أن الدول النامیة التی تسعى إلى النمو والتقدم لیست معنیة بالمشاکل البیئیة، بل على العکس تماماً، یتعین علیها عند وضع خطط وسیاسات التنمیة الاقتصادیة، أن تحرص على إقامة قواعد ومبادئ تهدف إلى حمایة البیئة الإنسانیة حتى لا تسیر على نفس النهج المدمر للبیئة الذی سارت علیه الدول الصناعیة الکبرى([6]).

بید أنه یتعین الانتباه إلى أن الدول النامیة تعانی من مشاکل أخرى غیر التلوث البیئی ویأتی على رأسها الفقر والبطالة الناتجة عن القصور فی التنمیة الاقتصادیة. وبالتالی، فإن فرض عبء حمایة البیئة على الدول النامیة بنفس المقدار المقرر على الدول المتقدمة لن یسمح لها بتحقیق التنمیة المرجوة والتغلب على مشاکلها. کما یتعین أیضاً فرض التزامات على عاتق الدول المتقدمة لمساعدة الدول النامیة فی التغلب على مشاکلها الخاصة المتمثلة فی الفقر والبطالة، بالإضافة إلى التغلب على المشکلة العامة المتمثلة فی التلوث البیئی([7]).

وعلیه، أصبحت فکرة التنمیة المستدامة محور المناقشات الدولیة، باعتبارها الوسیلة الحقیقیة التی تساعد على تحقیق التوازن بین اعتبارات التنمیة الاقتصادیة واعتبارات حمایة البیئة. وقد برز الاهتمام بفکرة التنمیة المستدامة مع تقریر "مستقبلنا المشترک" الذی قدمته اللجنة العالمیة للبیئة والتنمیة عام 1987، والمعروف باسم "تقریر بروندتلاند"، حیث أورد هذا التقریر تعریفاً للتنمیة المستدامة، کما اقر بأهمیتها فی معالجة مشاکل التنمیة، وبخاصة فی الدول النامیة، وذلک دون الانتقاص من اعتبارات حمایة البیئة([8]).

والحقیقة أن فکرة التنمیة المستدامة تعتبر نظاماً تعاونیاً متکاملاً یسهم فی تقدیم الحلول للعدید من التحدیات الجوهریة التی تجابه المجتمع الدولی، والتی یأتی على رأسها الزیادة المطردة فی السکان وما تتطلبه من ضرورة توفیر الطعام الکافی، وضرورة حمایة البیئة وعناصرها الأساسیة اللازمة لبقاء البشریة، وذلک فضلاً عن معالجة المشاکل المتعلقة بالفقر والمرض والبطالة ونقص الطاقة، ومواجهة مشاکل تغیر المناخ العالمی. وقد أدى ذلک إلى انعکاس فکرة التنمیة المستدامة فی العدید من الاتفاقیات الدولیة المعنیة بمعالجة المشاکل السابقة، فضلاً عن النص علیها فی الدساتیر والقوانین الوطنیة للدول، الأمر الذی أدى إلى تطور ملحوظ فی مفهومها وقیمتها القانونیة.



([1]) راجع:

James Crawford, Brownlie’s Principles of Public International Law, Oxford University Press, 2012, p. 358.

“Although emerging as a distinct field of scholarship, the existence of sustainable development as a distinct legal concept, that is, one which gives rise to or defines actionable rights, is controversial.”

راجع أیضاً:

Marcos Orellana, In this Issue: Sustainable Development in the Courts: Introduction, Sustainable Development Law and Policy, Fall 2009, p. 2.

([2]) راجع:

Melissa Clack, Vaughn Lowe Et Al., International Law and Sustainable Development: Past Achievements and Future Challenges, edited by Alan Boyle and David Freestone, Denver Journal of International Law and Policy, Winter, 2003, p. 145.

وإذا کانت التنمیة المستدامة تعنی بشکل أساسی باعتبارات حمایة البیئة، إلا أن ذلک لا یعنی أن کل الجوانب القانونیة المتعلقة بالتنمیة المستدامة تتعلق بالضرورة بمسألة حمایة البیئة. کذلک، لا تهتم کل جوانب القانون الدولی للبیئة بالتنمیة المستدامة، فهناک مسائل أخرى تهتم بها التنمیة المستدامة بخلاف اعتبارات حمایة البیئة، ومنها حقوق الإنسان وحقوق الحیوان.

([3]) راجع: د. أحمد عبد الکریم سلامة، قانون حمایة البیئة: مکافحة التلوث-تنمیة الموارد الطبیعیة، دار النهضة العربیة، 2009، ص 31-32.

"إذا أدرکنا أن البیئة هی منطلق التنمیة الاقتصادیة، وأن مشکلات البیئة ترجع فی معظمها إلى التنمیة الاقتصادیة سواء فی الدول المتقدمة أو الدول النامیة، أمکننا فهم الصلة بین علم القانون الاقتصادی والبیئة، حیث یمکن استخدام التحلیلات الاقتصادیة فی بیان الحلول القانونیة لحمایة البیئة، والعوامل ذات الطابع الاقتصادی، التی تملی هذه الحلول".

([4]) راجع:

Luis A. Avilés, IN THIS ISSUE: RIO+20: SUSTAINABLE DEVELOPMENT AND THE LEGAL PROTECTION OF THE ENVIRONMENT IN EUROPE, Sustainable Development Law & Policy, Spring, 2012, p. 29.

([5]) راجع: د. أحمد عبد الونیس شتا، الحمایة الدولیة للبیئة فی أوقات النزاعات المسلحة، المجلة المصریة للقانون الدولی، العدد 52، 1996، ص23-32.

أصبح الحق فی بیئة نظیفة ضمن حقوق الإنسان الأساسیة. وحمایة البیئة من التلوث لیس حقاً فقط للدول والأفراد على حد سواء، بل إن هناک التزام عام وقانونی بتحقیق تلک الحمایة.

([6]) راجع:

Ulrich Beyerlin, Sustainable Development, Max Planck Encyclopedia of Public International Law, October 2013, p. 1.

([7]) راجع:

The Founex Report on Development and Environment, 1971, para. 1.1-1.2. Available at

http://www.stakeholderforum.org/fileadmin/files/Earth%20Summit%202012new/Publications%20and%20Reports/founex%20report%201972.pdf

“The developing countries are not, of course, unconcerned with these problems. They have an obvious and a vital stake in them to the extent of their impact on the global environment and on their economic relations with the developed countries. They have also an interest in them to the extent that they are problems that tend to accompany the process of development and are in fact already beginning to emerge, with increasing severity, in their own societies. The developing countries would clearly wish to avoid, as far as is feasible, the mistakes and distortions that have characterized the patterns of development of the industrialized societies.”

([8]) راجع:

Marie-Claire Cordonier Segger and Ashfag Khalfan, Sustainable Development Law: Principles, Practices and Prospects, Oxford University Press, 2004, p. 2-4.