دور البصمة الوراثية في إثبات النسب فى القانون الفرنسى والقانون المصرى

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

مدرس القانون المدني بکلية الحقوق – جامعة القاهرة

نقاط رئيسية

تکملة المقال داخل الملف المرفق

الموضوعات الرئيسية


مقدمــة

تعد رابطة النسب أقوى وأسمى الروابط الإنسانیة قاطبة، وذلک لأنها تقوم على أساس وحدة الدم بین مجموعة من الأشخاص، نظراً لوجود أصل واحد یشترکون فی الانتساب إلیه، سواء کان هذا الأصل من ناحیة الأب أو من ناحیة الأم، فتقوم بین هؤلاء الأشخاص قرابة متینة ومتماسکة تعرف بقرابة النسب، وهی القرابة التی تقوم بین الشخص وأصوله وفروعه وحواشیه.

وإذا کانت أسرة الشخص تتکون من زوجه وذوی قرباه، وهؤلاء الأقارب تربط بینهم وبین الشخص إما قرابة نسب أو قرابة مصاهرة، ویقصد بهذه الأخیرة تلک القرابة التی تنشأ ـ بسبب الزواج ـ بین أحد الزوجین وأقارب الزوج الآخر، فلا شک أن قرابة النسب هی الأساس الأهم والأقوى الذی تقوم علیه الأسرة، وذلک نظراً لکونها رابطة دم ـ کما أشرنا ـ تربط بین الأشخاص بعروة وثقى. کما أن رابطة الزوجیة، ومن ثم قرابة المصاهرة، مهددة بالزوال، حیث إنها تنتهی بانحلال علاقة الزواج التی هی السبب فی وجودها، سواء کان هذا الانحلال بالطلاق أو بموت أحد الزوجین. أما قرابة النسب فهی رابطة أبدیة لا تنفصم عراها حتى بعد الموت.

ولما کانت الأسرة هی اللبنة الأولى فی بنیان المجتمع (1)، وعلى صلاحها یتوقف صلاح المجتمع کله، وکانت الأسرة تقوم فی الأساس على رابطة النسب، فقد اهتمت القوانین والشرائع المختلفة، وبخاصة الشریعة الإسلامیة، بتلک الرابطة اهتماماً بالغاً. ولا أدل على ذلک من جعل النسب فی طلیعة الضرورات الخمس التی اتفقت الشرائع السماویة على وجوب حفظها ورعایتها، وذلک للحیلولة دون اختلاط الأنساب، بغیة المحافظة على نقاء الأسرة وتماسکها، الأمر الذی یعود بالنفع والسکینة على المجتمع بأسره.

وتترتب على قرابة النسب آثار قانونیة متعددة، من شأنها تحدید ما یتمتع به الشخص من حقوق وما یقع على عاتقه من التزامات (1).

حیث تنشأ للشخص نتیجة لقرابته لأفراد أسرته مجموعة من الحقوق وتترتب علیه بعض الالتزامات، تسمى حقوق وواجبات الأسرة. فالشخص باعتباره أباً مثلاً یکون له الحق فی تأدیب أولاده والولایة علیهم، ویجب علیه فی المقابل الإنفاق علیهم وحسن تربیتهم. وبوصفه ابناً یکون له على والدیه حق التربیة والنفقة والحضانة والرضاعة والسکنى وغیر ذلک، ویجب علیه طاعتهما ورعایتهما والإحسان إلیهما.

وتعتبر قرابة النسب سبباً رئیسیاً لاستحقاق الإرث، حیث یکون للشخص الحق فی أن یرث قریبه الذی یتوفى. کما یکون للقریب العاجز عن الکسب الحق فی الحصول على النفقة من أقاربه الموسرین.

وفضلاً عن ذلک، فإن قرابة النسب تعد مانعاً من الزواج فی حالات عدیدة، حیث یحرم على الشخص مثلاً أن یتزوج أمه أو بنته أو أخته أو عمته أو خالته. إلى غیر ذلک من الآثار القانونیة المترتبة على تلک القرابة، کاکتساب جنسیة الوالدین.

والواقع أن ثبوت النسب تتعلق به حقوق مشترکة بین الله سبحانه وتعالى، وبین الأم، والأب، والولد.

فهو حق لله سبحانه وتعالى لأنه یتصل بحرمات أوجب الله رعایتها، وهو حق للأم التی یعنیها أن یثبت نسب طفلها من زوجها تأکیداً لشرفها وحمایة لعرضها وکرامتها ودفعاً للعار عنها وعن أسرتها، وهو حق للأب الذی یسعده أن ینتسب ولده إلیه فیحمل اسمه وأن یظل اسمه مقترناً باسم ولده حتى بعد وفاته فتمتد بذلک ذکراه، وهو أخیراً حق للولد حیث یضمن له الانتساب لأسرة معینة ویدفع عنه العار بکونه ابن زنا ویرتب له حقوقاً بینها الشرع والقانون (2).

ونتیجة لذلک، فإن إثبات النسب یعد أمراً بالغ الأهمیة. إذ قد یحدث أن یتم إنکار هذا النسب، مما یترتب علیه حرمان الشخص من الحقوق التی تثبت له بناء علیه، لاسیما الحق فی المیراث، وفی مثل هذه الحالة یکون الشخص بحاجة إلى أن یقیم الدلیل على وجود هذا النسب.

ولا صعوبة فی إثبات النسب إذا کان المراد هو إثبات نسب الولد لأمه، إذ أن هذا النسب یثبت بالولادة، وهذه الأخیرة هی واقعة مادیة یمکن إثباتها بکافة طرق الإثبات.

أما إثبات نسب الولد لأبیه، فإنه یبدو صعباً إلى حد کبیر، إذ لا یمکن إقامة الدلیل المادی القاطع على أن هذا الولد من ذاک الرجل. وقد أشار القرآن الکریم إلى ذلک فی قوله تعالى: " وَالْوَالِدَاتُ یُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَیْنِ کَامِلَیْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن یُتِمَّ الرَّضَاعَةَ، وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَکِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" (1). فقد نسب الحق عز وجل الأولاد للأمهات للقطع بوالدیتهن لهم، وذلک بخلاف الآباء حیث عبر عنهم بقوله " المولود له "، لأن المولود له قد لا یکون هو الأب الحقیقی (2).

ولهذا حرصت قوانین الدول، وکذلک الشریعة الإسلامیة الغراء، على بیان کیفیة إثبات هذا النسب، ووضعت فی سبیل ذلک وسائل محددة لإثبات النسب بوجه عام أو نفیه.

غیر أن التقدم العلمی فی مجال الطب قد کشف النقاب عن وسیلة حدیثة یمکن أن تلعب دوراً کبیراً سواء فی إثبات النسب أو فی نفیه، وهذه الوسیلة هی ما تسمى بـ " البصمة الوراثیة "، والتی جاء اکتشافها على ید العالم البریطانی "ألیک چیفریز" أستاذ علم الوراثة بجامعة لیستر بإنجلترا عام 1985، حیث قدم بحثاً أوضح فیه أنه خلال دراسته المستفیضة على الحمض النووی، أو الدنا DNA، الذی یوجد فی نواة الخلیة بجسم الإنسان، تبین له أن لکل شخص بصمة وراثیة خاصة به تمیزه عن غیره من الناس، ولا تتطابق حتى فی حالة التوائم المتماثلة. وقد سجل اکتشافه هذا فی عام 1986، وأطلق علیه اسم " البصمة الوراثیة "، تشبیهاً لها ببصمة الأصابع التی یتمیز بها کل شخص عن غیره (1).

وقد أحدث اکتشاف البصمة الوراثیة ضجة کبیرة فی الأوساط العلمیة والقانونیة فی مختلف أنحاء العالم، وتسارعت من أجله الندوات والمؤتمرات العلمیة لدراسة هذه النازلة العصریة الحدیثة، ومعرفة کیفیة الاستفادة من البصمة الوراثیة فی الکشف عن هویة الإنسان فی المجالات المختلفة، خاصة فی مجال النسب والمجال الجنائی.

فبعد أن کان العالم کله یعتمد على وسائل تقلیدیة فی إثبات النسب، یفترض أنها تجعل نسب الشخص لوالدیه یتفق مع الحقیقة البیولوجیة، وإن کانت فی کثیر من الأحیان تخفق فی ذلک، أصبحت البصمة الوراثیة وسیلة فعالة تکاد لا تخطئ فی التحقق من الوالدیة البیولوجیة، أی فی الکشف عن الأب الحقیقی والأم الحقیقیة للشخص. فقد دلت الأبحاث الطبیة التجریبیة على أن نسبة نجاح البصمة الوراثیة فی نفی النسب تصل إلى حد القطع، أی بنسبة 100%، أما فی حالة إثبات النسب فتصل إلى ما یقرب من القطع، وذلک بنسبة 99,9%، مما یجعلها قرینة نفی وإثبات لا تقبل الشک (2).

ولقد استنکر الناس فی بادئ الأمر هذا الکشف العجیب الغریب، ورفضوا التسلیم بنتائجه فی منازعاتهم، فما کان من رواد البصمة الوراثیة إلا الصبر والرفق بالناس وتوعیتهم بحقیقتها حتى یطمئنوا إلیها. ثم ما لبثت المحاکم فی أوروبا وأمریکا أن اعترفت بتلک البصمة وأخذت فی الاحتکام إلیها عن طمأنینة وقناعة، سواء فی قضایا النسب أو فی القضایا الجنائیة. بل إن المشرع فی کثیر من هذه البلاد قد نص صراحة على جواز الأخذ بالبصمة الوراثیة فی مثل هذه القضایا، مع وضع ضوابط لممارستها تضمن سلامة العمل بها، وتبعث الثقة فی الاحتکام إلیها.

أما فی البلاد العربیة، فإنه یتم اللجوء إلى البصمة الوراثیة فی مجال قضایا النسب بحذر شدید وفی أضیق الحدود، نظراً لخضوع النسب فیها لأحکام الشریعة الإسلامیة التی أولته عنایة خاصة ووضعت له أدلة شرعیة ثابتة، مما یقتضی التروی فی النظر وعدم الاندفاع إلى الأخذ بنظریة علمیة ولیدة ـ تحتمل الصواب والخطأ ـ کدلیل یوازی الأدلة الشرعیة الثابتة أو یقاربها. فالشارع یحتاط للأنساب ویتشوف إلى ثبوتها، ویکتفی فی إثباتها بأدنى دلیل، فإذا ما ثبت النسب فإنه یتشدد فی نفیه، ولا یحکم به إلا بأقوى الأدلة (1). ومع ذلک فإن الشریعة الغراء لا تمانع فی الأخذ بما ثبت من حقائق علمیة، مسایرة للتطور وتغیر الظروف، ما دام أن ذلک لیس فیه خروج على أحکام الشرع ومبادئه، أو مصادمة للنصوص الشرعیة قطعیة الدلالة.

ونظراً لتزاید منازعات النسب فی هذا العصر، الذی فسدت فیه الذمم، وشاعت فیه العلاقات غیر المشروعة بین الرجال والنساء، مما جعل کثیر من الناس یشکون فی أنسابهم، فإن ذلک قد دفعنا إلى دراسة دور البصمة الوراثیة فی إثبات النسب، بغیة الوقوف على ما یمکن أن تلعبه تلک البصمة من دور فی الکشف عن حقیقة الأنساب المتنازع علیها، إلى جانب الدور الذی تضطلع به الأدلة القانونیة والشرعیة فی هذا الصدد، وذلک فی إطار القانون الفرنسی والقانون المصری، باعتبار القانون الأول نموذجاً لقوانین الدول الغربیة المسیحیة، والقانون الثانی نموذجاً لقوانین الدول العربیة الإسلامیة، لنرى مدى الدور الذی تلعبه البصمة الوراثیة فی مجال إثبات النسب فی کل من هذین القانونین.



(1) انظر:

F. Terré et D. Fenouillet, Droit civil, les personnes, la famille, lesincapacités, Dalloz, 2005, no286, p. 264.

(1) انظر: مؤلفنا المدخل للعلوم القانونیة، ج 2 نظریة الحق، 2009، ص 245 وما بعدها.

(2) انظر: د. محمد محمد أبو زید، دور التقدم البیولوجی فی إثبات النسب، ص 107 وما بعدها – د.یوسف قاسم، حقوق الأسرة فی الفقه الإسلامی، دار النهضة العربیة، 1987، ص 385 وما بعدها.

(1) سورة البقرة، الآیة رقم 233.

(2) انظر: د. عمر بن محمد السبیل، البصمة الوراثیة ومدى مشروعیة استخدامها فی النسب والجنایة، بحث مقدم إلى الدورة السادسة عشر للمجمع الفقهی لرابطة العالم الإسلامی بمکة المکرمة عام 2002، ص 11.

(1) انظر:

S. Bimes-Arbus, La preuve scientifique de la filiation, thèse, Toulouse, 1999, p. 10 – A. Bottiau, Empreintes génétiques et droit de la filiation, D., 1989, p. 271.

د. حسنى محمود عبد الدایم عبد الصمد، البصمة الوراثیة ومدى حجیتها فی الإثبات، دراسة مقارنة بین الفقه الإسلامی والقانون الوضعی، دار الفکر الجامعی، 2007، ص 72 وما بعدها.

(2) انظر: د. نجم عبد الله عبد الواحد، البصمة الوراثیة وتأثیرها على النسب إثباتاً أو نفیاً، بحث مقدم للمجمع الفقهی لرابطة العالم الإسلامی بمکة المکرمة، الدورة 16 عام 2002، ص 9 – خلیفة على الکعبی، البصمة الوراثیة وأثرها على الأحکام الفقهیة، دراسة فقهیة مقارنة، دار الجامعة الجدیدة للنشر، 2004، ص 31.

(1) انظر: د. عمر بن محمد السبیل، البصمة الوراثیة ومدى مشروعیة استخدامها فی النسب والجنایة، المرجع السابق، ص 7.